للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

لك الدهر طوع، والأنام عبيد ... فعش، كل يوم من أيامك «١» عيد.

وطريق السير في هذا أن يُساس نفسه شيئاً فشيئاً، يمنعها من المكروهات، ثم من المباحات شيئاً فشيئاً، حتى تستأنس، يترك شهوة ثم أخرى، وهكذا، وأما لو منعها الكل دفعة واحدة فربما تمل وتسقط، وقد قال عليه الصلاة والسّلام: «لا يكن أحدكم كالمنبت، لا أرضا قطع، ولا ظهراً أبقى» «٢» . وإلى هذا أشار في المباحث، حيث قال:

واحْتَلْ عَلَى النَّفْسِ فَرُبَّ حِيله ... أنفعُ في النُّصْرة مِن قبيلهْ

وأعظم الحظوظ حُب الجاه والتقدُّم، فلا يسامحها المريد في شيء من ذلك قط، ولينزل بها إلى الخمول والسفليات، وأما شهوة البطن والفرج فما تشوّفت إليه النفس من ذلك فليمنعها منها كليّاً، وما أتاها من غير حرص ولا تشوُّف فليأخذ منه قدر الحاجة، مع الشكر عليه، هكذا يسير حتى يتحقق وصوله، ويتمكن من معرفة الحق، وحينئذ فلا كلام معه، كما تقدّم، ولا بد من صُحبة شيخ عارف كامل، يلقيه زمام نفسه، فيحمله بهمته، وإلا فلا طاقة على مجاهدتها أصلاً، وجَرَّب ففي التجريب علم الحقائق.

قال القشيري: مَن لم يَسْلك سبيلَ الاتباع، ولم يستوفِ أحكام الرياضة، ولم ينسلخ عن هواه بالكلية، ولم يؤدبَه إمامٌ مُقتدًى به، فهو ينحرفُ في كل وَهْدةٍ، ويهيمُ في كل ضلالة، ويضلُّ في كل فجٍّ، خسرانه أكثر من ربحه، ونقصانه أوفر من رجحانه، أولئك في ضلال بعيد، زِمامُهم بيد هواهم، أولئك أهل المكر، استدرجوا وما يشعرون. هـ. وفي الحِكَم: «لا يُخَافُ أن تلتبس الطرقُ عليك، وإنما يُخَافُ من غلبة الهوى عليك» «٣» . فمَن غَلَبَه الهوى غَلَبَه الوجود بأسره، وتصرّف فيه، أحبَّ أم كَرِهَ، ومَن غلب هواه غلب الوجود بأسره، وتصرف فيه بهمته كيف شاء.

حكي عن أبي عمران الواسطي، قال: انكسرت بنا السفينة، فبقيت أنا وامرأتي على ألواح، وقد وَلَدَتْ في تلك الليلة صبية، فصاحت بي، وقالت: يقتلني العطش، فقلت: هو ذا يرى حالنا، فرفعتُ رأسي، فإذا رجل جالس في يده سلسلة من ذهب، فيها كوز من ياقوت أحمر، فقال: هاك اشربا، فأخذتُ الكوز، فشربنا، فإذا هو أطيب من


(١) هكذا، وأرى- أنها «زمانك» ليستقيم الوزن.
(٢) أخرجه البيهقي السنن (٣/ ١٨) والبزار (٧٤) والحاكم فى معرفة علوم الحديث (ص ٩٦) والشهاب القضاعي فى مسنده (ح ١١٤٧، وح ١١٤٨) عن جابر مرفوعا، بلفظ «إن هذا الدين متين، فأوغل فيه برفق، فإنّ المنبت..» إلخ الحديث، وزاد القضاعي بعد «فأوغل فيه برفق» : «ولا تبغض إلى نفسك عبادة الله» وأخرجه بنحوه البيهقي فى الشعب (ح ٣٨٨٥) عن السيدة عائشة رضي الله عنها، و (ح ٣٨٨٦) عن عمرو بن العاص رضي الله عنه.
وانظر الشذرة فى الأحاديث المشتهرة (ح ٨٩٣) وكشف الخفاء (٢٣٣٩) .
(٣) حكمة رقم (١٠٧) انظر تبويب الحكم ص ١٧.

<<  <  ج: ص:  >  >>