للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

رُوي أنَّ سلمان كان يخدم رجلين من الصحابة، ويُصلح طعامَهما، فنام عن شأنه يوماً، فبعثاه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «ما عندي شيء» فأخبرهما سلمان، فقالا: لو بعثناه إلى بئر سَميحةٍ لَغار مَاؤُها. فلما جاءا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لهما: «مالى أَرى حُمرَةَ اللَّحم في أَفْواهِكُما؟» فقالا: ما تناولنا لَحْماً، فقال: «إنكما قد اغْتَبتُما، مَن اغتاب مسلماً فقد أكل لحمه» ، ثم قرأ الآية «١» .

وقيل: غيبة الخلق إنما تكون بالغيبة عن الحق. هـ. قاله النسفي. قال بعضهم: والغيبة صاعقة الدين، فمَن أراد أن يُفرّق حسناته يميناً وشمالاً فليغتب الناس. وقيل: مثلُ صاحب الغيبة مثل مَن نصب منجنيقاً فهو يرمي به حسناته يميناً وشمالاً، شرقاً وغرباً. هـ. والأحاديث والحكايات في ذم الغيبة كثيرة، نجانا الله منها بحفظه ورعايته.

وهل هي من الكبائر أو من الصغائر؟ خلاف، رجّح بعَضٌ أنها من الصغائر لعموم البلوى بها، قال بعضهم: هي فاكهةُ القراء، ومراتعُ النساء، وبساتينُ الملوك، ومزبلة المتقين، وإدام كلاب الناس. هـ «٢» .

الإشارة: مَن نظر الناسَ بعين الجمع عذَرهم فيما يصدرُ منهم، وحسَّن الظنَّ فيما لم يصدر منهم، وعظَّم الجميع، ومَن نظرهم بعين الفرق طال خصمه معهم فيما فَعلوا، وساء ظنُّه بهم فيما لم يفعلوا، وصغَّرهم حيث لم يرَ منهم ما لا يُعجبه، فالسلامةُ: النظر إليهم بعين الجمع، وإقامةُ الحقوق عليهم في مقام الفرق، قياماً بالحكمة في عين القدرة. وفي الحديث: «ثلاثة دبّت لهذه الأمة الظن، والطيرة، والحسد» قيل: فما النجاة؟ قال:

«إذا ظننت فلا تحقّق، وإذا تَطَيَّرتَ فامضِ، وإذا حسدتَ فلا تبغ» «٣» أو كما- قال عليه السلام. قال القشيري: النفسُ لا تُصدَّق، والقلب لا يُكذَّب، والتمييزُ بينهما مُشْكِلٌ، ومَن بَقِيَتْ عليه من حظوظه بقيةٌ- وإن قلّت- فليس له أن يَدَّعي بيانَ القلب- أي: استفتاءه- بل يتهمَ نفسه ما دام عليه شيء من نفسه، ويجب أن يتهم نَفْسَه في كل ما يقع له من نقصان غيره، هذا أمير المؤمنين عمرُ قال وهو يخطب الناس: «كُلّ الناسِ أفقه من عمر حتى النساء» «٤» . هـ.


(١) قال المناوى فى الفتح السماوي (٣/ ١٠٠٤) : «ذكره الثعلبي بغير إسناد، وروى معناه الأصبهانى فى الترغيب عن عبد الرّحمن ابن أبى ليلى» .
(٢) على هامش النّسخة الأم مايلى: غريب هذا الترجيح، وأغرب منه دليله، فالأحاديث الكثيرة الصحيحة تفيد أن الغيبة من الكبائر، بل من أكبرها، بل من أربى الرّبا، وأشد من ست وثلاثين زنية، والزنا والرّبا من الكبائر، وأيضا: هى من حقوق الخلق، التي لا تكفّر إلا بالاستحلال، فكيف تكون من الصغائر أ. هـ.
(٣) ذكره ابن عبد البر فى التمهيد (٦/ ١٢٥) بلفظ (ثلاث لا يسلم منهن أحد..) الحديث، وعزاه لعبد الرّزاق، عن إسماعيل بن أمية. وذكره الهيثمي فى المجمع (٨/ ٨١) وابن كثير فى التفسير (٤/ ١٣) بلفظ «ثلاث لازمات لأمتى..» الحديث، وفيه: «وإذا حسدت فاستغفر الله» وعزاه كل منهما للطبرانى عن حارثة بن النّعمان. وقال الهيثمي: «وفيه إسماعيل بن قيس الأنصاري، وهو ضعيف» .
(٤) قاله رضي الله عنه بعد أن خطب ناهيا عن المغالاة فى مهور النّساء، وأن لا يزدن عن أربعمائة درهم، فقالت له امرأة من قريش: أما سمعت الله يقول: وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً [النساء/ ٢٠] . ذكره فى كنز العمال (رقم ٤٥٧٩٨) وعزاه لسعيد بن منصور، وأبى يعلى فى مسنده، والمحاملي فى أماليه، عن مسروق. وانظر: الشذرة فى الأحاديث المشتهرة (رقم ٦٩٧) . [.....]

<<  <  ج: ص:  >  >>