للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وقال القشيري: الإشارة فيه: إني متوفيك عنك وقابضك منك، ورافعك عن نعوت البشرية، ومطهرك عن إرادتك بالكلية، حتى تكون مصدقاً لنا بنا، ولا يكون لك من اختيارك شيء، وتكون إسبال التولي عليك قائماً، وبهذا الوصف كان يظهر على يده إحياء الموتى، وما كانت تلك الأحداث حاصلة إلا بالقدرة عليه. هـ. وقال الورتجبي:

متوفيك عن رسم الحدوثية، ورافعك إليَّ بنعت الربوبية، ومطهرك عن شوائب البشرية. هـ.

ثم ذكر نشأة عيسى وخلقه، فقال:

[سورة آل عمران (٣) : الآيات ٥٩ الى ٦٠]

إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٥٩) الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (٦٠)

يقول الحق جلّ جلاله: إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ أي: إن شأنه الغريب في كونه وجد من غير أب (كمثل آدم) . ثم فسر شأن آدم فقال: خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ أي: خلق قالبه من تراب، ثُمَّ نفخ فيه الروح، وقالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ أي: فكان، فشأنه أغرب من شأن عيسى، لأنه وجد من غير أب ولا أم، بخلاف عيسى عليه السلام، فلا يستغرب حاله ويتغالى فيه إلا من طَبع اللهُ على قلبه، فاستعجز القدرة الإلهية، وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً. هّذاَ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ أي: الشاكين في مخلوقيته، وهذا خطاب للنبى صلّى الله عليه وسلم، على طريق التهييج لغيره، أو لكل سامع.

وسبب نزول الآية: أنَّ وفد نجران قالوا للنبى صلّى الله عليه وسلم: مالك تشتم صاحبنا، فتقول: إنه عبد؟ قال: أجل، هو عبد الله ورسوله، وكلمته ألقاها إلى مريم العذراء البتول، فغضبوا، وقالوا: هل رأيت إنساناً قط من غير أب؟ فإن كنت صادقاً فأرنا مثله. فنزلت: إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ. أي: فهو أعجب من عيسى، لكونه بلا واسطة أصلاً. رُوِيَ أن مريم حملت بعيسى وهي بنت ثلاث عشرة سنة، وأوحى الله إليه على رأس ثلاثين سنة، ورفعه إليه من بيت المقدس ليلة القدر، وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة، وعاشت أمه بعد رفعه ست سنين.

قال عليه الصلاة والسلام: «أنا أولى الناس بعيسى ابن مريم لأنه لم يكن بيني وبينه نبيّ، فإنه نازل بأمتي وخليفتي فيهم، فإذا رأيتموه فاعرفوه، فإنه رجل مربوع إلى الحمرة والبياض، سبط الشعر، كأن شعره يقطر، وإن لم يصبه بلل، يدق الصليب، ويقتل الخنزير، ويفيض المال، وليسلكن الروحاء «١» ، حاجّاً أو معتمراً، أو ليَثْنِينَّهما جميعاً، ويقاتل الناس على الإسلام، حتى يُهلك الله في زمانه الملل كلها، ويهلك الله في زمانه مسيح الضلالة، الكذاب


(١) فج الروحاء: طريق بين مكة والمدينة، كان طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بدر، وإلى مكة، عام الفتح وعام الحج.

<<  <  ج: ص:  >  >>