للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الإشارة: لا يستوي القاعد مع حظوظه وهواه، مشتغلاً بتربية جاهه وماله وتحصيل مُناه، غافلاً عن السير إلى حضرة مولاه، مع الذي سلَّ سيفَ العزم في جهاد نفسه وهواه، وبذل مهجته وجاهد نفسه في طلب رضاه، حتى وصل إلى شهود أنوار جماله وسناه، هيهات هيهات، لا يستوي الأحياء مع الأموات، فإن قعد مع نفسه لعذر يُظهره، مع محبته لطريق القوم وإقراره لأهل الخصوصية، فقد فضَّل الله عليه المجاهدين لنفوسهم بدرجة الشهود ومعرفة العيان للملك الودود، وإن قعد لغير عذر مع الإنكار لأهل الخصوصية، فقد فضَّل الله عليه المجاهدين أجرًا عظيمًا، درجات منه بالترقي أبدًا، ومغفرة ورحمة، وفي البيضاوي: التفضيل بدرجة في جهاد الكفار، وبدرجات في جهاد النفس لأنه الأكبر للحديث. والله تعالى أعلم.

ثم ذكر حكم من تخلف عن الهجرة والجهاد حتى مات، فقال:

[سورة النساء (٤) : الآيات ٩٧ الى ٩٩]

إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ قالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها فَأُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَساءَتْ مَصِيراً (٩٧) إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً (٩٨) فَأُولئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُوراً (٩٩)

يقول الحق جلَ جلاله: إِنَّ الَّذِينَ تتوفاهم الْمَلائِكَةُ أي: ملك الموت وأعوانه، يعني: تَقبِضُ أرواحهم، ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ بترك الهجرة ومرافقة الكفرة، قالُوا أي: الملائكة في توبيخهم: فِيمَ كُنْتُمْ أي:

في أي شيء كنتم من أمر دينكم: أعلى الشك أو اليقين؟ أو: في أي بلد كنتم: في دار الكفر أو الإسلام؟ قالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ فعجزنا عن الهجرة وإظهار الدين خوفًا من المشركين، قالُوا أي: الملائكة تكذيبًا لهم وتبكيتًا: أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها إلى قطر آخر، كما فعل المهاجرون إلى الحبشة والمدينة، لكن حبستكم أموالُكم، وعزَّت عليكم أنفسكم، فَأُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ لتركهم الهجرة الواجبة في ذلك الوقت، ومساعدتهم الكفار على غزو المسلمين، وَساءَتْ مَصِيراً أي: قبحت مصيرا جهنم التي يصيرون إليها.

نزلت في ناس من أهل مكة تكلموا بالإسلام ولم يُهاجروا، فخرجوا يوم بدر مع المشركين فرأوا قلةَ المسلمين، فقالوا: غرَّ هؤلاء دينُهم، فقُتِلوا، فضربت الملائكة وجوههم وأدبارهم، كما يأتي، فلا تجوز الإقامة تحت حكم الكفر مع الاستطاعة، بل تجب الهجرة، ولا عذر في المقام، وإن منعه مانعٌ فلا يكون راضيًا بحاله مطمئنَ النفس بذلك، وإلا عمَّهُ البلاءُ، كما وقع لأهل الأندلس، حتى صار أولادُهم كفارًا والعياذ بالله، وكذلك لا تجوز الإقامة في موضعٍ تغلبُ فيه المعاصي وترك الدين.

<<  <  ج: ص:  >  >>