للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أن تنزل نارٌ من السماء فتأكل القربان المقبول، وإن لم يقبل لم تنزل، فنزلت نار من السماء فأكلت قربان هابيل، وتركت قربان قابيل، فحسذه، وقال له: لَأَقْتُلَنَّكَ، حسدًا على تقبل قربانه دونه، فقال له أخوه: إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ الكفر، أي: إنما أُوتيت من قبل نفسك بترك التقوى، لا من قِبلي، فِلمَ تقتلني؟

قال البيضاوي: وفيه إشارة إلى أنَّ الحاسد ينبغي أن يرى حرمانه من تقصيره، ويجتهد في تحصيل ما به صار المحسود محظوظًا، لا في إزالة حظه، فإن ذلك مما يضره ولا ينفعه، وأن الطاعة لا تقبل إلا من مؤمن متقي. هـ.

وفيه نظر: فإن تقوى المعاصي ليست شرطًا في قبول الأعمال بإجماع أهل السنة، إلا أن يُحمل على تقوى الرياء والعجب. انظر الحاشية.

ثم قال له أخوه هابيل: لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي ما أَنَا بِباسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخافُ اللَّهَ رَبَّ الْعالَمِينَ أي: لئن بدأتني بالقتل لم أبدأك به، أو لم أدفعك عني، وهل تركه للدفع تورع، وهو الظاهر، أو كان واجبًا عندهم، وهو قول مجاهد؟ وأما في شرعنا: فيجوز الدفع، بل يجب، قاله ابن جزي. وقال البيضاوي:

قيل: كان هابيل أقوى منه، فتحرج عن قتله، واستسلم له خوفًا من الله، لأن الدفع لم يُبح بعدُ، أو تحريًا لِمَا هو الأفضل. قال صلّى الله عليه وسلّم: «كُن عبدَ الله المقتُول، ولا تكُن عبدَ الله القاتل» «١» . وإنما قال: (ما أنا بباسط) في جواب (لئن بسطت) للتبري من هذا الفعل الشنيع، والتحرز من أن يوصف به، ولذلك أكد النفي بالباء. هـ.

ثم قال له هابيل: إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ أي: إني أريد بالاستسلام وعدم الدفع أن تنقلب إلى الله ملتبسًا بإثمي، أي: حاملاً لإثمي لو بسطت إليك يدي، وإثمك ببسطك يديك إلىّ، ونحوه قوله صلّى الله عليه وسلّم: «المُستَبَّان ما قَالاَ فَعَلى البادئ منهما مَا لَم يَعتَدِ المَظلُومُ» «٢» . أو بإثم قتلى وبإثمك الذي لم يتقبل من أجله قربانك، أو بسائر ذنوبي فتحملها عني بسبب قتلك لي فإن الظالم يجعل عليه يوم القيامة ذنوب المظلوم ثم يطرح في النار، ولذلك قال: وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ، يحتمل أن يكون من كلام هابيل، أو استئناف من كلام الله تعالى، أي: جزاؤهم يوم القيامة أن يحملوا أوزار المظلومين، ثم يطرحون في النار، كما في حديث المفلس.

ولم يرد هابيل بقوله: إِنِّي أُرِيدُ، أنه يُحب معصية أخيه وشقاوته، بل قصد بذلك الكلام أنه إن كان القتل لا محالة واقعًا فأريد أن يكون لك لا لي، والمقصود بالذات: ألا يكون له، لا أن يكون لأخيه. ويجوز أن يكون المراد بالإثم عقوبته. وإرادة عقاب العاصي جائزة. قاله البيضاوي.

فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ أي: سهلت له ووسِعته ولم تضق منه، أو طاوعته عليه وزينته له، فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخاسِرِينَ دينًا ودنيا، فبقي مدة عمره مطرودًا محزونًا. قال السدي: لما قصد قابيلُ قتل هابيل،


(١) أخرجه بنحوه أحمد فى المسند (٥/ ١١٠) من حديث خباب بن الأرت.
(٢) أخرجه مسلم فى (البر والصلة، باب النهى عن السباب) عن أبى هريرة رضي الله عنه، ومعنى الحديث: أن إثم السباب الواقع من اثنين مختص بالبادىء منهما كله، إلا أن يتجاوز الثاني قدر الانتصار فيقول للبادئ أكثر مما قاله له.

<<  <  ج: ص:  >  >>