للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وعلة القطع: الزجر، ولذلك قال: جَزاءً بِما كَسَبا نَكالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ. فإن قلت: ما الحكمة في قطعها في ربع دينار، مع أن دِيتَهَا أن قطعت، خمسمائة دينار؟ قلت: ذل الخيانة أسقطت حرمتها بعد عز الصيانة. فافهم حكمة الباري.

فَمَنْ تابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ أي: بعد سرقته، كقوله في سورة يوسف: كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ «١» أي: السارقين، وَأَصْلَحَ بأن ردّ ما سرق، وتخلص من التبعات ما استطاع، وعزم ألا يعود، فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ، فيتقبل توبته، فلا يعذبه في الآخرة، وأما القطع: فهل يسقط، وهو مذهب الشافعي لظاهر الآية، أو لا يسقط، وهو مذهب مالك، لأن الحدود لا تسقط عنده بالتوبة إلا عن المحارب؟ .. قاله ابن جزي، تبعًا لابن عطية، وفيه نظر، فإن مشهور مذهب الشافعي موافق لمالك، ولعله تصحف عنده الشافعي بالشعبي، كما نقل الثعلبي عنه. والله أعلم.

أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يتصرف فيهما كيف شاء، فالخطاب للرسول- عليه الصلاة السّلام- أو لكل أحد، يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ قال السدي: يُعذب من مات على كفره، ويغفر لمن تاب من كفره. وقال الكلبي: يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ على الصغيرة إذا أقام عليها وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ على الكبيرة إذا نزع منها، وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ لا يعجزه شيء.

الإشارة: كما أمر الحق- جلّ جلاله- بقطع سارق الأموال، أمر بقطع سارق القلوب، وهو الشيطان، وجنوده الخواطر الردية فإن القلب بيت كنز السر- أي: سر الربوبية- لأن القلب بيت الرب، والبصيرة حارسة له، فإذا طرقه الشيطان بجنوده، فإن وجد البصيرة متيقظة دفعته وأحرقته بأنوار ذكرها، وأن وجدها نائمة فإن كان نومها خفيفًا اختلس منها وفطنت له، وإن كان نومها ثقيلاً بتراكم الغفلات، خرب البيت ولم تفطن له، فيسكن فيه بجنوده الخواطر وهي نائمة. فالواجب على الإنسان حفظ قلبه، قبل أن يسكنه الشيطان، فيصعب دفعه، وحفظه بدوام ذكر الله القلبي، فإن لم يستطع فبدوام اللسان، فإن لم يستطع فبالنية الصالحة. وربنا المستعان.

ثم تكلم على ما يتعلق باللسان، وهو الأمر الخامس مما تضمنته السورة، فقال:

[[سورة المائدة (٥) : آية ٤١]]

يا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قالُوا آمَنَّا بِأَفْواهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هذا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أُولئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ (٤١)

قلت: الباء في: (بأفواههم) - متعلقة بقالوا.


(١) من الآية ٧٥.

<<  <  ج: ص:  >  >>