للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

قلت: (فتطردهم) : جواب النفي، و (فتكون) : جواب النهي، أي: ولا تطرد فتكون من الظالمين، فليس عليك من حسابهم شيء فتطردهم.

يقول الحق جلّ جلاله لنبيه- عليه الصلاة والسلام-، حين طلب منه صناديدُ قريش أن يطرد عنه ضعفاء المسلمين ليجالسوه، فَهَمَّ بذلك طمعًا في إسلامهم، فنزلت: وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ أي: يعبدونه بالذكر وغيره، أو يدعونه بالتضرع والابتهال، بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ أي: على الدوام. وخص الوقتين بالذكر لشرفهما.

وفي الخبر: «يا ابنَ آدمَ، اذكُرني أول النهار وآخره، أكفِكَ ما بينهما» «١» . وقيل: صلاة الصبح والعصر، وقيل:

الصلاة بمكة قبل فرض الخمس.

قال البيضاوي: بعد ما أمره بإنذار غير المتقين ليتقوا- أي: على التفسير الثاني في الآية المتقدمة- أمره بإكرام المتقين وتقريبهم، وألاَّ يطردَهم، ترضية لقريش، رُوِي أنهم قالوا: لو طَردتَ هؤلاء الأعبُدِ- يُعنُون فقراء المُسلِمِينَ، كعمَّار وصُهَيب وخبَّاب وبِلال وسَلمان- جلَسنا إليك، فقال: «ما أنا بطاردِ المؤمنين» . قالوا: فأقمهُم عنا، قال: «نَعَم» . [وروى أن عمر قال له: لَو فَعَلتَ حتَّى تنظرَ إلى ما يَصِيرُونَ؟] قالوا: فاكتُب بِذَلِكَ كِتَابًا، فدَعَا بالصَّحِيفَةِ وبَعَليٍّ ليَكتُبَ، فنزلت «٢» . هـ. وفي ذكر سلمان معهم نظر لتأخر إسلامه بالمدينة.

ثم وصفهم بالإخلاص فقال: يُرِيدُونَ وَجْهَهُ أي: يدعونه مخلصين طالبين النظر لوجهه، وفيه تنبيه على أن الإخلاص شرط فى الأعمال، ورتب النهي عليه إشعارًا بأنه يقتضي إكرامهم، وينافي إبعادهم، ثم علل عدم طردهم فقال: ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَما مِنْ حِسابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ أي: أنت لا تحاسب عنهم، وهم لا يحاسبون عنك، فلأي شيء تطردهم؟ وقيل: الضمير: للكفار، أي: أنت لا تحاسب عنهم، وهم لا يحاسبون عنك، فلا تهتم بأمرهم، حتى تطرد هؤلاء من أجلهم، فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ بطردهم، لكنه- عليه الصلاة السلام- لم يفعل، فلا ظلم يلحقه في ذلك لسابق العناية والعصمة.

وَكَذلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ أي: ومثل ذلك الاختبار، وهو اختلاف أحوال الناس في أمر الدنيا، فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ أي: ابتلينا بعضهم ببعض في أمر الدين، فقدّمنا هؤلاء الضعفاء على أشراف قريش بالسبق إلى الإيمان لِيَقُولُوا أَهؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا أي: أهؤلاء من أنعم الله عليهم بالهداية والتوفيق دوننا، ونحن الأكابر والرؤساء، وهم المساكين والضعفاء، فنحن أحق منهم به إن كان حقًا، وهذا إنكار منهم لأن يخص هؤلاء من بينهم بإصابة الحق والسبق إلى الخير، كقولهم لَوْ كانَ خَيْراً مَّا سَبَقُونا «٣» . واللام في «ليقولوا» : للعاقبة. قال تعالى


(١) أخرجه أبو نعيم فى حلية الأولياء، عن أبى هريرة.. انظر كنز العمال/ ١٧٩٥.
(٢) أخرجه بنحوه ابن ماجه فى: (الزهد، باب مجالسة الفقراء) والطبراني فى الكبير (٤/ ٨٧ ح ٩٦٩٣) والواحدي فى أسباب النزول، وابن جرير فى التفسير عن خباب، بدون ذكر سلمان، وكذلك بدون ذكر مشورة سيدنا عمر، وقد جاء ذكر مشورة سيدنا عمر عند ابن جرير والواحدي عن عكرمة.
(٣) من الآية ١١ من سورة الأحقاف.

<<  <  ج: ص:  >  >>