للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

قلت: المُلك: ما ظهر في عالم الشهادة من المحسوسات، والملكوت: ما غاب فيها من معاني أسرار الربوبية، والجبروت: ما لم يدخل عالم التكوين من أسرار المعاني الأزلية.

يقول الحق جلّ جلاله: وَكَذلِكَ أي: مثل ذلك التبصر الذي بَصَّرنا به إبراهيم حتى اهتدى للرد على أبيه، نُريه مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي: نكشف له عن أسرار التوحيد فيهما، حتى يشاهد فيهما صانعهما، ولا يقف مع ظاهر حسهما، وإنما فعلنا له ذلك لِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ بمعرفتنا، عارفًا بأسرار قدسنا.

ولما كان أبوه وقومه يعبدون الأصنام والكواكب والقمر والشمس، أراد أن يرشدهم إلى التوحيد من طريق النظر والاستدلال فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ أي: ستره بظلامه، رَأى كَوْكَباً وهو الزهرة أو المشتري، قالَ هذا رَبِّي على سبيل التنزل إلى قول الخصم، وإن كان فاسدًا فإن المستدل على فساد قول يحكيه على ما يقوله الخصم، ثم يَكرّ عليه بالفساد لأن ذلك أدعى إلى الحق، وأقرب إلى رجوع الخصم، فَلَمَّا أَفَلَ أي: غاب، قالَ لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ فضلاً عن عبادتهم فإن التغير بالاستتار والانتقال يقتضي الإمكان والحدوث وينافي الألوهية.

فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بازِغاً: مبتدئا في الطلوع، قالَ هذا رَبِّي، فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ. استعجزَ نفسه واستعان ربه في دَرك الحق، وأنه لا يهتدي إليه إلا بتوفيقه إرشادًا لقومه، وتنبيهًا لهم على أن القمر أيضًا لتغيُّر حاله، لا يَصلح للألوهية، وأن من اتخذه إلهًا، فهو ضالٌّ.

فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بازِغَةً قالَ هذا رَبِّي، إنما ذكَّر الإشارة لتذكير الخبر، وصيانةً للرب عن شبهة التأنيث هذا أَكْبَرُ لكبر النور وسطوعه أكثر، فَلَمَّا أَفَلَتْ قالَ يا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ من الأجرام المحدثة المحسوسة، المحتاجة إلى محدث يحدثها، ومخصص يخصصها.

ولما تبرأ من عبادتها توجه إلى موجدها ومبدعها، فقال: إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ أي: أبدع السَّماواتِ وَالْأَرْضَ حال كوني حَنِيفاً أي: مائلاً عن دنيكم وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ مثلكم. وإنما احتج بالأفول دون البزوغ، مع أنه تغير لأن الأفول أظهر في الدلالة لأنه انتقال مع اختفاء واحتجاب. ولأنه رأى الكوكب الذي يعبدونه في وسط السماء حين حاول الاستدلال. وقيل: إن هذا الاستدلال والاحتجاج كان في حال طفولته قبل التكليف. فقد رُوِي أنه لما ولدته أمه في غار، خوفًا من نمرود إذ كان يقتل الأطفال لأن المنجمين أخبروه أن هلاكه على يد صبي يُولد في هذا العصر، فكان يستدل بما رأى على توحيد ربه، وهو في الغار، وهذا ضعيف لأن قوله: إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ يقتضى المحاجة والمخاصمة لقومه.

وقوله عليه السلام: هذا رَبِّي مع قوله إِنِّي سَقِيمٌ «١» وفَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا «٢» ، ليس بكذب للعصمة، وإنما هو تورية. وفي الحديث: «ليس بكاذبٍ من كاذَب ظالمًا، أو دفع ضررًا، أو رعى حقًا، أو حفظ قلبا» . وفى


(١) من الآية ٧٩ من سورة الصافات.
(٢) من الآية ٦٣ من سورة الأنبياء. [.....]

<<  <  ج: ص:  >  >>