للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وكيف يكون له الولد أو الشريك، وهو بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ؟. أي: مبدعهما ومخترعهما بلا مثالٍ يُحتَذِيه، ولا قانون ينتحيه، والمعنى: أنه تعالى مُبدع لقطري العالم العلوي والسفلي بلا مادة لأنه تعالى مُنزه عن الأفعال بالمادة. والوالد عنصر الولد، ومُنفصل بانتقال مادته عنه، فكيف يمكن أن يكون له ولد؟. ولذلك قال:

أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ أي: من أين، أو كيف يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ، وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صاحِبَةٌ يكون منها الولد، فإن انتفاء الصاحبة مستلزم لانتفاء الولد، ضرورة استحالة وجود الولد بلا والدة في العادة، وانتفاء الصاحبة مما لا ريب فيه، وكيف أيضًا يكون له ولد وَقد خَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ، فكيف يتصور أن يكون المخلوق ولدًا لخالقه؟ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ أي: أحاط بما من شأنه أن يعلُم كائنًا ما كان، فلا تخفى عليه خافية مما كان، ومما سيكون من الذوات والصفات، ومن جملتها: ما يجوز عليه تعالى وما يستحيل كالولد والشريك.

ذلِكُمُ المنعوت بما ذكر من جلائل الصفات، هو اللَّهُ المستحق للعبادة خاصة، رَبُّكُمْ أي: مالك أمركم لا شريك له أصلاً، خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ، مما كان وسيكون، ولا تكرار مع ما قبله لأن المعتبر فيما تقدم خالقيته لِمَا كان فقط، كما تقتضيه صيغة الماضي، بخلاف الوصف يصلح للجميع، وإذا تقرر أنه خالق كل شيء فَاعْبُدُوهُ فإن من كان خالقًا لكل شيء، جامعًا لهذه الصفات، هو المستحق للعبادة وحده، وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ أي: هو متولي أمور جميع عباده ومخلوقاته، التي أنتم من جملتها، فَكِلُوا أمركم إليه، وتوسلوا بعبادته إلى جميع مآربكم الدنيوية والأخروية، فإنه يكفيكم أمرها بقدرته وحفظه.

الإشارة: كل من خضع لمخلوق في نيل حظ دنيوي، إنسيًا أو جنيًا، أو أطاعه في معصية الخالق، فهو مشرك به مع ربه، وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا بَعِيداً «١» ، فلذلك عمل الصوفية على مجاهدة نفوسهم في مخالفة الهوى لئلا تميل بهم إلى شيء من السِّوى، وتحرروا من رق الطمع، وتوجهوا بهمتهم إلى الحق وحده، ليتبرأوا من أنواع الشرك كلها، جليها وخفيها. حفظنا الله بما حفظهم به. آمين.

ثم عرّف بذاته المقدسة، فقال:

[[سورة الأنعام (٦) : آية ١٠٣]]

لاَّ تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (١٠٣)

يقول الحق جلّ جلاله: لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ أي: لا تحيط به، ولا تناله بحقيقته، وعن ابن عباس:

(لا تدركه في الدنيا، وهو يُرى في الآخرة) ، ومذهب الأشعرية: أن رؤية الله في الدنيا جائزة عقلاً، لأنَّ موسى عليه السلام سألها، ولا يسأل موسى ما هو محال، وأحالته المعتزلة مُطلقًا، وتمسكوا بالآية، ولا دليل فيها لأنه ليس الإدراك مطلق الرؤية، ولا النفي في الآية عامًا في الأوقات، فلعله مخصوص ببعض الحالات، ولا في الأشخاص فإنه في قوة قولنا: لا كل بصر يدركه، مع أن النفي لا يوجب الامتناع. قاله البيضاوي.


(١) الآية ١١٦ من سورة النساء

<<  <  ج: ص:  >  >>