للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

قلت: تصريف الشيء: إجراؤه على أحوال متعاقبة وجهات مختلفة، ومنه: تصريف الرياح لهبوبها من جهات مختلفة، ولما كانت آيات القرآن تنزل على أنواع مختلفة في أوقات متعاقبة، شبهت، بتصريف الرياح على أنحاء مختلفة، (وليقولوا) : متعلق بمحذوف، أي: وليقولوا: درست، صرفنا الآيات، واللام للعاقبة، وكذلك: (ولنبينه) :

المتعلق واحد.

يقول الحق جلّ جلاله: ومثل ذلك التصريف الذي صرفنا من الآيات، من قوله: إِنَّ اللَّهَ فالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوى «١» إلى قوله: قَدْ جاءَكُمْ بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ «٢» - نُصَرِّفُ الْآياتِ في المستقبل لتكون عاقبة قوم الشقاء بها بتكذيبهم إياها، وَلِيَقُولُوا لك: دارسْتَ «٣» أهل الكتاب، وتعلمت ذلك منهم، وليس بوحي، أو دَرَسْتَ هذه الأخبار وعفت، وأخبرت بها من إملاء غيرك عليك، كقولهم: أساطير الأولين، وليكون عاقبة قوم آخرين الاهتداء، وإليهم الإشارة بقوله: وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ أي: وليتضح معناه عند قوم آخرين، فيهتدوا به إلى معرفتي وتوحيدي ومحل رضواني وكرامتي، فالخطاب متحد، والأثر مختلف على حسب السابقة.

الإشارة: ظهور الآيات على يد أهل الخصوصية- كالعلوم اللدنية والمواهب الربانية- لا يوجب لهم التصديق لجميع الخلق، فلو أمكن ذلك لكان النبي صلى الله عليه وسلّم أولى به، بل لا بد من الاختلاف، فقوم قالوا: هذه العلوم ... دارس فيها وتعلمها، وقوم قالوا: بل هي مِن عند الله لا كسب فيها، قال تعالى: وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ «٤» .

ثم أمر نبيه بالإعراض عن أهل الإنكار، فقال:

[سورة الأنعام (٦) : الآيات ١٠٦ الى ١٠٧]

اتَّبِعْ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لاَ إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (١٠٦) وَلَوْ شاءَ اللَّهُ ما أَشْرَكُوا وَما جَعَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (١٠٧)

يقول الحق جلّ جلاله: اتَّبِعْ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ بالدوام على التمسك به، والاهتداء بهديه، ودم على توحيده، لاَ إِلهَ إِلَّا هُوَ فلا تصغ إلى من يعبد معه غيره، وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ، فلا تحتفل بأقوالهم، ولا تلتفت إلى رأيهم، وهذا محكم، أو: أعرض عن عقابهم وقتالهم، وهو منسوخ بآية السيف، وَلَوْ شاءَ اللَّهُ ما أَشْرَكُوا: لكن سبقت مشيئته بإشراكهم، ولو أراد إيمانهم لآمنوا، وهو حجة على المعتزلة، وَما جَعَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً: رقيبًا، وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ تقوم بأمرهم، وتُلجئهم إلى الإيمان إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ «٥» .


(١) الآية ٩٥ من سورة الأنعام.
(٢) الآية ١٠٤ من السورة نفسها.
(٣) قرأ ابن كثير وأبو عمرو (دارست) بألف، وقرأ ابن عامر ويعقوب (درست) أي: قدمت وبليت، وقرأ الباقون (درست) أي: حفظت وقرأت.. انظر: إتحاف فضلاء البشر.
(٤) الآية ١١٨ من سورة هود.
(٥) الآية ٢٣ من سورة فَاطِر.

<<  <  ج: ص:  >  >>