للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الأسرار له، فَسَوْفَ تَرانِي، فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ أي: أظهر له شيئًا من أنوار الربوبية التي هي أسرار المعاني الأزلية، جَعَلَهُ دَكًّا أي: مدكوكًا مفتتًا، والدك والدق واحد. وقرأ حمزة: «دكاء» بالمد، أي: أرضًا مستوية، ومنه: ناقة دكاء لاسنم لها. وَخَرَّ مُوسى صَعِقاً مغشيًا عليه من هول ما رأى، فَلَمَّا أَفاقَ قالَ تعظيمًا لما رأى: سُبْحانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ من الجرأة والإقدام على السؤال بغير إذن، وقال بعضهم: تُبتُ إليك من عدم الاكتفاء بقوله: لَنْ تَرانِي حتى نظر إلى الجبل، وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ أنك لا تُرى بلا واسطة نور الصفات، أو أول أهل زماني إيمانًا.

الإشارة: رؤية الحق جائزة واقعة عند الصوفية في الدارين، ولكن لا ينالها في هذه الدار إلا خواص الخواص، ويُعبّرون عنها بالشهود والعيان، ولا يكون ذلك إلا بعد الفناء، وفناء الفناء بعد موت النفس وقتلها، ثم الغيبة عن حسها ورسمها، تكون بعد التهذيب والتدريب والتربية على يد شيخ كامل، لا يزال يسير به ويقطع به في المقامات، ويغيبه عن نفسه ورؤية وجوده، حتى يقول له: ها أنت وربك، وذلك أن الحق جل جلاله تجلى لعباده بأسرار المعاني خلف رداء الأواني، وهو حس الأكوان، فأسرار المعاني لا يمكن ظهورها إلا بواسطة الأواني، أو تقول:

أسرار الذات لا تظهر إلا في أنوار الصفات، فلو ظهرت أسرار الذات بلا واسطة لاضمحلت الأشياء واحترقت، كما في الحديث: «حِجَابُهُ النُّورُ، لَو كشَفَهُ لأحرقَت سُبُحَاتُ وَجههِ ما أنتَهَى إلَيه بَصَرُهُ مِنْ خلَقِهِ» «١» .

فالمراد بالنور نور الصفات، وهو الأواني الحاملة للمعاني، لو كشف ذلك النور حتى تظهر أسرار الذات لأحرقت كلَّ شيء ادركه بصره. والواسطة عند المحققين هى عين الموسوط، فلا يزال المريد يفنى عن عين الواسطة في شهود الموسوط حتى يغيب عن الواسطة بالكلية، أو تقول: لا يزال يغيب عن الأواني بشهود المعاني حتى تشرق شمس العرفان، فتغيب الأواني في ظهور المعاني، فيقع العيان على فقد الأعيان، «كان الله ولا شيء معه، وهو الآن على ما عليه كان» ، «ما حجبك عن الحق وجود موجود معه، إذ لا شيء معه، وإنما حجبك توهُّم موجود معه» .

والحاصل: أن الحق تعالى تكون رؤيته أولاً بالبصيرة دون البصر، لأن البصيرة تدرك المعاني، والبصر يدرك الحسيات، فإذا انفتحت البصيرة استولى نورها على نور البصر، فلا يرى البصر حينئذٍ إلا ما تراه البصيرة. قال بعض العارفين: هذه المزية العظمى- وهي رؤية الحق تعالى- في الدنيا على هذا الوجه: خاص بخواص الأمة


(١) أخرجه مسلم فى (الإيمان- باب فى قوله صلّى الله عليه وسلّم: إن الله لاينام) من حديث أبى موسى.

<<  <  ج: ص:  >  >>