للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

يقول الحق جلّ جلاله: يَسْئَلُونَكَ أي: قريش، عَنِ السَّاعَةِ أي: قيام الناس من قبورهم للحساب، أَيَّانَ مُرْساها أي: متى إرساؤها، أي: ثبوتها ووقوعها؟ قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي استأثر بعلمها، لم يُطلع عليها ملكاً مقربًا، ولا نبيًا مرسلاً، لا يُجَلِّيها لِوَقْتِها أي: لا يُظهرها عند وقت وقوعها، إِلَّا هُوَ، والمعنى إن إخفاءها يستمر إلى وقت وقوعها، ثَقُلَتْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ عظمت على أهلها من الملائكة والثقلين لهولها، وكأنه إشارة إلى الحكمة في إخفائها. أو ثقلت على السموات والأرض أنفسهما لتبدلهما وتغير حالهما، لا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً: فجأة على غفلة، كما قال صلّى الله عليه وسلّم: «إنَّ الساعَة تَهِيجُ بالنَّاسِ، والرَّجُلُ يُصلِحُ حَوضَهُ، والرَّجُلُ يسقى ما شيته، والرَّجلُ يُقَوَّم سِلعَته في سُوقِه، والرَّجُل يَخفِضُ مِيزَانَهُ ويرفعه» . «١» . والمراد:

النفخ في الصور للصعق، لأن الساعة مُرَتَّبة عليه وقريبة منه.

يَسْئَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْها أي: عالم بها، من حفى على الشيء: إذا سأل عنه، فإنَّ من بالغ في السؤال عن الشيء، والبحث عنه، استحكم علمه فيه، أي: يسألونك عن وقت قيامها، كأنك بليغ في السؤال عنها فعلمتها، وليس كما يزعمون، وأما قوله: فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْراها «٢» : فقيل: معناه: التعجب عن كثرة اهتمامه بالسؤال، أي: في أي شغل أنت من ذكراها والسؤال عنها؟ ولا يُعارض ما هنا لأنه استغنى عن ذلك بتلك الآية، وبعدها نزلت هذه، والله أعلم.

وقيل: «عنها» : يتعلق ب (يسألونك) ، أي: يسألونك عنها كأنك حفي بهم، أي: شفيق بهم، قيل: إن قريشًا قالوا:

إنَّ بيننا وبينك قرابة، فقل لنا: متى الساعة؟ فقال له الحق تعالى: قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللَّهِ لا يعلمها غيره، وكرره لتكرر «يسألونك» . وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ أن عِلْمُها عند الله لم يؤته أحدًا من خلقه.

الإشارة: إذا أشرق نورُ اليقين في القلب صارت الأمور المستقبلة حاصلة، والغائبة حاضرة، والآجلة عاجلة، فأهل اليقين الكبير قدّموا ما كان آتيًا، فحاسبوا أنفسهم قبل ان يُحاسبوا، ووزنوا أعمالهم قبل أن تُوزن عليهم، وجازوا الصراط بسلوكهم المنهاج المستقيم، ودخلوا جنة المعارف قبل حصول جنة الزخارف، فالموت في حقهم إنما هو انتقال من حالٍ إلى حال، ومن مقام إلى مقام، ومن دار الغرور إلى دار الهناء والسرور. وفي الحِكم: «لو أشرق لك نور اليقين في قلبك، لرأيت الآخرة أقرب إليك من أن ترحل إليها، ولرأيت محاسن الدنيا قد ظهرت كسفة الفناء عليها» .


(١) أخرجه بهذا اللفظ ابن جرير فى التفسير، (٩/ ١٠٤) من حديث قتادة، وفي البخاري، عن أبي هريرة رفعه: «لتقومن الساعة وقد نشر الرجلان ثوبهما بينهما فلا يتبايعانه ولا يطويانه» . أخرجه البخاري فى (الرقاق- باب ٤) وبنحوه مسلم فى (الفتن- باب قرب الساعة) .
(٢) الآية ٤٣ من سورة النازعات.

<<  <  ج: ص:  >  >>