للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

قُلْ إِنْ كانَ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ وَإِخْوانُكُمْ وَأَزْواجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ أي: أصحابكم، أو أقرباؤكم، وَأَمْوالٌ اقْتَرَفْتُمُوها اكتسبتموها، وَتِجارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسادَها أي: فوات وقت إنفاقها، وَمَساكِنُ تَرْضَوْنَها لحسنها وسعتها، فإن كان ذلك أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ أي: من الإيمان بالله وصحبة رسوله، وَجِهادٍ فِي سَبِيلِهِ، فآثرتم ذلك، وتخلفتم عن الإيمان والهجرة، فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ أي: بعقوبة عاجلة أو آجلة، أو بنصر وفتح على المؤمنين، كفتح مكة وغيرها، والمراد بالمحبة: الاختيارية دون الطبيعة فإنها لا تدخل تحت التكليف، والتحفظ عنها لأن حب الأوطان والعشائر طبيعي، والحب المكلف به اختياري، بحيث يجاهد نفسه في إبدال الطبيعي بالاختياري.

ثم هدد من وقف مع حب الأوطان بقوله: وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ لا يرشدهم ولا يوفقهم. وفي الآية تهديد عظيم، وقلَّ من تحفظ عنه. قاله البيضاوي.

الإشارة: الهجرة من أوطان الغفلة واجبة، ومفارقة الأصحاب والعشائر الذين لا يوافقون العبد على النهوض إلى الله فريضة، فيجب على المريد أن يهاجر من البلد التي لا يجد فيها قلبه، ولا يجد فيها من يتعاون به على ربه، كائنة ما كانت، وما رأينا ولياً قط أنتج في بلده، إلا القليل، فلما هاجر صلّى الله عليه وسلّم من وطنه إلى المدينة. وحينئذ نصر الدين، بقيت سنة في الأولياء، لا تجد ولياً يعمر سوقُه إلا في غير بلده، ويجب عليه أيضاً أن يعتزل مَن يشغله عن الله من الآباء والأبناء والأزواج والعشائر، وكذلك الأموال والتجارات التي تشغل قلبه عن الله، بعد أن يقيم في أولاده حقوق الشريعة، فاللبيب هو الذي يجمع بين الحقيقة والشريعة، فلا يضيع من يعول، ولا يترك حق من يتعلق به من الزوجة أو غيرها، ويذكر الله مع ذلك، فيخالطهم بحسه، ويفارقهم بقلبه، فإن لم يستطع وأراد دواء قلبه فليخير الزوجة، ويُوكل من ينوب عنه في القيام بحقوق العيال، حتى يقوى قلبه ويتمكن مع ربه، وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً، وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ «١» .

ولإبراهيم بن أدهم رضى الله عنه:

هَجَرْتُ الخَلْقَ طُرّاً في رِضاكَا ... وأَيْتَمْتُ البَنينَ لِكَيْ أَرَاكَا

فَلَوْ قَطَّعْتَني إِرْباً فَإرْباً ... لِمَا حنَّ الفُؤَادُ إِلَى سِوَاكَا

وبالله التوفيق


(١) الآيتان: ٢- ٣ من سورة الطلاق.

<<  <  ج: ص:  >  >>