للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

إلى انتظار قليل. ولكن هذا الزاهد يرى لا محالة زهده ويلتفت إليه، كما يرى البائع المبيع ويلتفت إليه، فيكاد يكون معجبا بنفسه وبزهده، ويظنّ بنفسه أنّه ترك شيئا له قدر لما هو أعظم قدرا منه؛ وهذا أيضا نقصان.

الثالثة وهى العليا: أن يزهد طوعا ويزهد فى زهده فلا يرى زهده، إذ لا يرى أنّه ترك شيئا إذ عرف أن الدنيا لا شىء، فيكون كمن ترك خزفة وأخذ جوهرة فلا يرى ذلك معاوضة ولا يرى نفسه تاركا شيئا. [والدنيا بالإضافة إلى الله ونعيم الآخرة أخسّ من خزفة بالإضافة إلى جوهرة [١]] ؛ فهذا هو الكمال فى الزهد، وسهبه كمال المعرفة. وأما أقسامه فمنها ما هو مضاف إلى المرغوب فيه والمرغوب عنه؛ فأما المرغوب فيه فهو على ثلاث درجات:

الأولى وهى السفلى: أن يكون المرغوب فيه النجاة من النار ومن سائر الآلام كعذاب القبر ومناقشة الحساب وخطر الصراط وسائر ما بين يدى العبد من الأهوال كما وردت به الأخبار. وفى الخبر: «إن الرجل ليوقف فى الحساب حتى لو وردت مائة بعير عطاشا على عرقه لصدرت رواء» ؛ فهذا زهد الخائفين وكأنّهم رضوا بالعدم لو أعدموا فإنّ الخلاص من الألم يحصل بمجرّد العدم.

الدرجة الثانية: أن يزهد رغبة فى ثواب الله ونعيمه واللّذّات الموعودة فى جنّته من الحور والقصور وغيره، وهذا زهد الراجين، فإن هؤلاء ما تركوا الدنيا قناعة بالعدم والخلاص من الألم بل طمعوا فى وجود دائم ونعيم سرمد لا آخر له.

الدرجة الثالثة وهى العليا: ألا يكون له رغبة إلا فى الله وفى لقائه، فلا يلتفت قلبه إلى الالام ليقصد الخلاص منها، ولا إلى اللذّات ليقصد نيلها والظفر بها،


[١] زيادة من الإحياء.