للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

الطبيعة وظواهرها، والمجتمع في شتى نماذجه، حتى ولو كانت تلك النماذج مما يتصل بالعالم الخفي - عالم المباذل والشذوذ؛ ولقد علمته التجربة أن الظرف والانبساط لا يصلح في كل الأحوال، وأنه قد يكون خطراً على صاحبه في بعض المواقف، ولذا نجده يقول: " الواجب بعد هذا كله تجنب الانبساط مع غير أهل الأدب، فإن الانبساط مع العوام مهلك للعرض متلف للجاه والحرمة " (١) ، ولكن يبدو أن هذا المبدأ قاعدة نظرية، وحسب.

ولقد كسب له حب استطلاعه سعة في التجربة، وفهماً لدواخل الأمور وبواطن الظواهر، وطبعه على الحذر والترقب، ولكن يبدو أن التجربة الواسعة لم تستطع أن تنزع من نفسه طيبة متأصلة، كانت تبادر حذره فتسبقه وتأخذ عليه الطريق، ولعل في القصة التالية ما يشير إلى ذلك، كان ذات يوم ماراً بدمشق يجتاز جسراً على نهر بردى، فإذا بغلام صغير السن دون البلوغ عريان يبكي، والغلمان يسبحون في النهر دونه، والناس يمرون به يميناً وشمالاً ولا يكلمونه، فأدركته عليه شفقة وأراد أن يتعرف خبره، فسأله عما به، فلم يرد وأمعن في البكاء والضجيج، وتبرع غلام آخر بالحديث نيابة عن الأول وقال للتيفاشي: يا سيدي هذا غلام جاء يسبح، ووضع ثيابه على الحجر فسرقت، وله أم عجوز صالحة تقتله اليوم إن رجع لها عرياناً، وقد جمع له الناس بعض النقود ليشتري بها قماشاً، فحفزت الأريحية التيفاشي إلى أن استخرج منديل نقوده ليدفع له شيئاً، وإذا بشاب من بعد يشير إليه: لا تفعل، فمشى إليه وسأله عن السبب، فقال ذلك الشاب: هذا الغلام العريان مقامر، عادته أن يفعل ذلك ثم يأخذ ما يحصل له ويقامر به، وهو شيطان والناس يعرفون ذلك منه، وإنما يصطاد الغرباء. قال التيفاشي: فوفر علي دراهمي، فجزيته خيراً وانصرفت (٢) ؛ طيبة تشبه الغفلة، ومع ذلك فإنها وسعت مجال تجربته، وكشفت له عن نموذج لم يكن يعرفه من التحيل، وربما أفادته فزادته حذراً.

مثل هذه الشخصية يخضع لواقع الحياة أكثر مما يخضع لقانون أخلاقي، ولذلك لم استبعد أن يكون قد عزل عن القضاء لشربه الخمر؛ ذلك لأن الإقبال على الخمر كغيره من المباذل الاجتماعية، موجود يأخذه على أنه قضية مسلمة، ويتحدث عنه حديث عالم الاجتماع. ومن هذه الواقعية أن يقول:


(١) نزهة الألباب (نسخة الخزانة العامة بالرباط رقم: ١٥٣٣) ص: ٥.
(٢) نزهة الألباب: ٨٨ - ٨٩.

<<  <   >  >>