للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

كان لم تغن بالأمس، ولا حلتها سادة الإنس، قد عبث بها الخراب، وعمها الهذم، فأصبحت أوحش من أفواه السباع فاغرة، تؤذن بفناء الدنيا، وتريك عواقب أهلها، وتخبرك عما يصير إليه كل ما قد بقي ماثلاً فيها، وتزهدك فيها.

وكررت النظر، ورددت البصر، وكدت استطار حزناً عليها، وتذكرت أيام نشأتي فيها، وصبابة لداتي بها؛ مع كواعب غيد، إلى مثلهن يصبو الحليم؛ ومثلت لنفسي انطواءهن بالفناء، وكونهن تحت الثرى إثر تقطع جمعنا بالتفرق والجلاء في الآفاق النائية، والنواحي البعيدة، وصدقت نفسي عن فناء تلك النصبة، وانصداع تلك البيضة، بعد ما عهدته من حسنها ونضارتها وزبرجها وغضارتها، ونضوته بفراقها من الحال الحسنة، والمرتبة الرفيعة، التي رفلت في حللها ناشئاً فيها، وأرعيت سمعي صوت الصدى والبوم زاقياً بها، بعد حركات تلك الجماعة المنصدعة بعرصاتها، التي كان ليلها تبعاً لنهارها، في انتشارها بسكانها، والتقاء عمارها، فعاد نهارها تبعاً لليلها في الهدو والاستيحاش، والخفوت والإخفاش. فأبكى ذلك عيني على جمودها، وقرع كبدي على صلابتها، وهاج بلابلي على تكاثرها، وحركني للقول على نبو طبعي؛ فقلت: [من الطويل]

سلام على دار رحلنا وغودرت ... خلاء من الأهلين موحشة قفرا

تراها كان لم تغن بالأمس بلقعاً ... ولا عمرت من أهلها قبلنا دهرا

فيا دار لم يقفرك منا اختيارنا ... ولو أننا نستطيع كنت لنا قبرا

ولكن أقداراً من الله أنفذت ... تدمرنا طوعاً لما حل أو قهرا

ويا خير دار قد تركت حميدة ... سقتك الغوادي ما اجل وما أسرى

ويا مجتلى تلك البساتين حفها ... رياض قوارير غدت بعدنا غبرا

ويا دهر بلغ ساكنها تحيتي ... ولو سكنوا المروين (١) أو جاوزوا النهرا (٢)


(١) المروين: مثنى مرو، وهما مدينتان بخراسان.
(٢) النهر: نهر جيحون.

<<  <  ج: ص:  >  >>