للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وإنهاك رجّالتهم، تمهيداً للقضاء عليهم جميعاً، وفي أثناء ذلك جمع جيش الأندلس شتاته وعادت إليه معنوياته فتحوّل مع الأرْسال المرابطيّة وفرسانهم إلى الهجوم المضادّ، فوقع الجيش الصّليبي بين مطرقة المرابطين وسندان ابن عباد.

وقدّم ابن تاشفين الجمال حيث كان لها نفع عظيم، إذ كانت خيول فرسان النصارى تجفل منها، وتلوي أعناقها عندما تسمع رغاءها، لعدم تعوّدها على رؤيتها. كما كان لقرع الطّبول أثر في تخلخل أفئدة النّصارى. فتوالى استنزاف قوّة النّصارى. ويوسف يحمل بنفسه وهو على فرسه يرغب في الصبر والاستشهاد ويقول بأعلى صوته:

"يا معشر المسلمين، اصبروا لجهاد أعداء الله الكافرين، ومن رزق منكم الشّهادة فله الجنّة، ومن سلم فقد فاز بالأجر العظيم والغنيمة". وتمتّع المسلمون بمعنويّات عالية فقاتلوا قتال من يطلب الشهادة ويتمنّى الموت ١، وكانت كلمات يوسف مع بسالته تعمل عملها في إذكاء حماس المسلمين، وقيل إن لصموده وقوته وسرعة حركته، قتلت تحته في هذه المعركة ثلاث أفراس ٢.

وأما ابن عباد فقد بذل جهداً مشكوراً، وأثبت كفاءة عالية في هذا اليوم، وصبر فعندما اشتدت صدمة النّصارى وانكشف بعض أصحابه وفيهم ابنه عبد الله، ضُرب على رأسه ضربة فلقت هامته حتى وصلت إلى صدغه، وجُرحت يُمنى يديه، وطُعنَ في أحد جانبيه، وعُقرت تحته ثلاثة أفراس، كلما هلك واحد قُدّم له آخر، وهو يقاسي حياض الموت ويضرب يميناً وشمالاً، وتذكّر في تلك الحالة ابناً له صغيراًَ كان مُغرماً به تركه في أشبيلية عليلاً، وكنيته أبو هاشم فقال ٣:

أبا هاشم هشمتني الشّفار ... فلله صبري لذاك الأوار

ذكرت شُخَيْصَك تحت العجاج ... فلم يثنني ذكره للفرار

وهكذا اتّبع يوسف في قتاله للنّصارى أسلوب الكرّ والفر ّبالصّفوف المتراصة المتماسكة وهو نظام أربك النّصارى لأنهمّ لم يعهدوه من قبل. وبعد عديد من الكرّات أدرك الأمير تضعضع النّصارى، فعندئذ ضرب ضربته الأخيرة، إذ أمر حشمه السّودان، فترجّل منهم زهاء أربعة آلاف، ودخلوا المعترك بدرق اللمّط، وسيوف الهند، ومزاريق الران، فطعنوا


١ روض القرطاس ص٩٥.
٢ التواتي ص ٢٩٧.
٣ نفح الطيب جـ٤ ص٣٦٦.

<<  <   >  >>