للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وفي منتصف القرن الرابع الهجري، العاشر الميلادي (٣٧٣ هـ - ٩٨٣ م) ظهرت الكتابات السياسية لجماعة " إخوان الصفا وخلان الوفا " متأثرة بنفس المؤثرات التي خضع لها الفارابي، وكانت السياسة لديها تمثل علماً مستقلاً بذاته، له خمسة أقسام: السياسة النبوية، والسياسة الملوكية، والسياسة العامية، والسياسة الخاصية، والسياسة الذاتية. ثم في القرن الخامس الهجري ظهرت أول الكتابات السياسية المستقلة عن الفكر الفلسفي، المتأثرة بالفقه الإسلامي على يد الماوردي في كتابه "الأحكام السلطانية " وأبي حامد الغزالي بكتابه " التبر المسبوك في نصائح الملوك ". ثم استمرت مسيرة التدوين في هذا الفن عبر العصور على هذا المنوال. والجدير بالملاحظة والذكر، أن التدوين السياسي قد وجد أرضية فكرية وفقهية كونها الصراع السياسي على السلطة، بعد الانقلاب على الخلافة الراشدة، وما نتج عنه من تأثيرات في ميادين التفسير والحديث، والتاريخ والعلاقات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والثقافية عامة، وما كرسه من مفاهيم ومصطلحات وتقاليد وأعراف، بعضها لها أصول في الشرع، وبعضها لا أصل لها فيه، ولكنها توهم بالانتساب إليه بسبب. وقد ساهمت هذه الأوضاع والمفاهيم والمصطلحات والتقاليد والأعراف المقحمة في الشرع، في تعطيل نمو الفقه السياسي الإسلامي وتوقفه عن التطور والنضج، وعاقته عن قيادة حركة المجتمع البشري، وأوصدت في وجهه آفاق العلم والمعرفة والخبرة. لا يتسع المجال للتوسع في عرض عوائق تطور الفكر السياسي لدى المسلمين، لذلك نكتفي بالإشارة إلى بعض ما لا ينبغي غض الطرف عنه مثل: ١ - الاستبداد السياسي الذي لم يدع مجالاً لرأي معارض، أو فكر محايد، أو قول صريح، أو موقف غير مؤيد. فأدى ذلك إلى أن صار الأصل لدى المسلمين هو حماية السلطان. وكل ما عدا ذلك من قدرات علمية وفقهية ومالية وعسكرية واجتماعية، في خدمته وحمايته، ومن أجل قمع معارضيه. حتى في عصرنا الحديث هذا عندما تنادت الأمم الغربية الغالبة، بضرورة تطبيق الديمقراطية سارع مغلوبوها من حكام المسلمين إلى التنادي بنفس الشعار، وتابعهم في ذلك بعض ضلال الدعوة والفكر تزلفاً، لكنهم عند التطبيق حولوا الديمقراطية غطاءً لملكياتهم السياسية والنقابية والحزبية الاستبدادية. وبذلك زوروا لحكام الغرب ديمقراطيتهم، وسفهوا أحلامهم، كما زوروا للمسلمين من قبل دينهم، وحرفوا لهم شريعتهم. لقد أدى الاستبداد عبر تاريخ الفكر السياسي الإسلامي إلى ظهور تيارين فكريين فقط: تيار سلطوي ينتقي من النصوص وأدلة الأحكام وأماراتها ما يلوي به عنق الشريعة ليبرر تصرفات الحكام الضالة وأوضاعهم المنحرفة. تيار معارض مقموع ألجأه الإرهاب إلى التوتر والعمل تحت الأرض، وفقه الرخص، والمصلحة النضالية المرسلة. وكلا التيارين لا يختلف رأيهما في موضوع الشورى الذي هو جوهر الحكم في الإسلام. إذ الشورى لدى التيار السلطوي محتكرة بيد السلطان، ولدى التيار المعارض محتكرة بيد القيادة، وعند الجانبين معاً غير ملزمة. لذلك لم تتح فرصة لنشوء تيار ثالث موضوعي، حر ومستقل، إلا من أحكام الشرع الحقيقية التي تجعل الشورى أمراً للمسلمين كافة، وقراراتها ملزمة للجهاز التنفيذي إلزاماً تاماً. ٢ - بروز مصطلحات في الفقه السياسي لا أصل لها من كتاب أو سنة، انتحلت كبدهيات شرعية لا تناقش، واتخذت قيوداً لحركة الفكر السياسي الإسلامي تحت طائلة مخالفة الكتاب والسنة، مثل: - مصطلح أهل الحل والعقد، وهو تعبير لم يرد في كتاب أو سنة. - كهنوتية العلماء والحكام والأشراف، إلى حد انتحل فيه زي خاص للرؤساء، وآخر خاص بالقضاة وبالشهود، وآخرللأشراف، من أجل تمييزهم عن العامة. - خلافة الإنسان لله في الأرض، وهو تفسير غير صحيح لقوله تعالى:) إِنِّي جاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيْفَة (البقرة: ٣٠ - جواز تولية الفاسق والظالم والمغتصب والمتغلب، وهذا حكم بَيّنٌ ضلاله وفساده. - قياس أمر الحاكم على إمام الصلاة، وهو قياس غير صحيح. لأن إمام الصلاة منضبط بأحكامها والسلطان عندهم سائب يفعل ما يشاء. - قياس أمر الحاكم على زوج المرأة. والقياس فاسد فلا الأمة الإسلامية أنثى ولا الحاكم زوجها. وإن كان الفقهاء رغم قياسهم هذا، جعلوا الأُمَّة في واقع الأمر أَمَةً سبِيَّةً أو عبداً خصياً لدى السلطان. وكذا الأمر في اعتبار " أهل الحل والعقد " أولياء الأمة الإسلامية يعقدون زواجها على السلطان، مغرقٌ في الفساد والغباء. - تحريف معنى " أولي الأمر " عن معناه الحقيقي الذي ورد في القرآن الكريم. لذلك فالفقه السياسي الإسلامي في أشد الحاجة إلى أن يحرر من هذه القيود الاصطناعية التي أخضعته للأهواء والنزوات، ولرغب بعض الفقهاء ورهبهم، وأن يعود إلى مساره القويم في ظل الكتاب والسنة النبوية الصحيحة. حينئذ يتفيأ المسلمون ظلال العدل والمساواة، والأمن والطمأنينة، ويفيضونها على غيرهم.

[فقه البغاة والخوارج]

هذا الفقه عقد له الطرسوسي فصلاً خاصاً. ولكنه سار فيه كما سار من قبله من الفقهاء، في اعتبار الخروج على الأمة هو الخروج على الحاكم. إلا أنه حاول التخفيف من نتائج هذا المنحى بالتمييز بين من خرج تظلماً، ومن خرج لخلاف في الرأي أو صراعاً على السلطة، معتمداً في استنتاجاته على ما فعله الإمام علي - كرم الله وجهه - في مواجهته للبغاة من بني أمية والخوارج. إلا أن هذا الفقه تحكمه أدلة خاصة به من القرآن الكريم، ومن السنة النبوية، بالإضافة إلى الأدلة العامة النقلية التي تحرم التظالم وتلزم بالحق والعدل والشورى، وتحض على الوحدة والتعاون وعدم التمزق والتشتت.

<<  <   >  >>