للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

المانع من الآخرِ.

الخامس: أنَّ كل ما علمَ عِلمًا تامًّا جازِمًا بانَّ فعلَ شيئًا يضرُّه ضررًا راجحًا

لم يفعلْه، فإنَّ هذا خاصةُ العاقلِ، فإنَّ نفسه تنصرفُ عمَّا يعلمُ رجحانَ ضررهِ

بالطبع، فإنَّ اللَّه جعلَ في النفس حبًّا لما ينفعُها وبغْضًا لما يضرُّها، فلا يفعلُ

ما يجزم بأنه يضرُّها ضررًا راجحًا، ولا يقعُ ذلك إلا مَعَ ضعيفِ العقلِ؛ فإنَّ

السقوطَ مَنْ موضع عالٍ، أو في نهر مغرقٍ، والمرورَ تحتَ حائطٍ يُخشى

سقوطُه، ودخولَ نارٍ متأججةٍ، ورميَ المالِ في البحرِ، ونحو ذلك، لا يفعلهُ

من هو تامُّ العقل لعلمِهِ بأن هذا ضرر ولا منفعةَ فيه، وإنَّما يفعلُه من لم يعلمْ

ضررُهُ كالصبيِّ، والمجنونِ، والسَّاهي، والغافلِ، وأمَّا العاقلُ فلا يُقدمُ على ما يضرّه مع علمه بما فيه من الضررِ إلا لظنِّه أنَّ منفعتَهُ راجحة إمَّا بأن يجزمَ بأن ضررَهُ مرجوح، أو يظنُّ أن خيرَهُ راجح، كالذي يركبُ البحرَ ويسافرُ الأسفارَ الخطرةَ للربح فإنه لو جزمَ بأنه يغرقُ أو يخسرُ لما فعلَ ذلكَ وإنَّما أقدمَ عليه لترجيح السلامةِ عندَهُ والربح، وإن كانَ قد يكونُ مخطئًا في هذا الظنِّ.

وكذلك الزاني والسارقُ ونحوُهما، لو حصلَ لهم جزم بإقامةِ الحدودِ

عليهم من الرجم والقطعْ ونحو ذلك، لم يُقدموا على ذلكَ، فإذا عُلم هذا

فاصلُ ما يوقعُ الناسَ في السيئاتِ الجهلُ وعدمُ العلم بأنها تضرُهم ضررًا

راجحًا، أو ظنُّ أنها تنفعُهم نفعًا راجحًا، وذلك كلُّه جهل إما بسيط وإمَّا

مركب، ولهذا يسمَّى حالُ فعلِ السيئاتِ الجاهليةَ، فإن صاحبَها في حالِ

جاهليةٍ، ولهذا كانَ الشيطانُ يزيِّنُ السيئاتِ ويأمرُ بها، ويذكرُ ما فيها من

المحاسنِ التي يُظنُّ أنها منافعُ لا مضارّ كما أخبرَ اللَّهُ عنه في قصةِ آدمَ أنه

(يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى (١٢٠) فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا) .

<<  <  ج: ص:  >  >>