للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[٤٥ - صفات من يدخلون الجنة بغير حساب]

يقول السائل: إنه قرأ في حلقة سابقة من يسألونك الحديث الذي ذكر فيه عكاشة بن محصن رضي الله عنه وأنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم أن يدعو الله أن يكون من السبعين ألفاً الذين يدخلون الجنة بغير حساب فمن هؤلاء الذين يدخلون الجنة بغير حساب وما صفاتهم؟

الجواب: ثبت في الصحيحين وغيرهما من كتب السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم أحاديث تخبر أن طائفة من أمة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب ومن هذه الأحاديث ما ثبت في الحديث عن حصين بن عبد الرحمن قال: كنت عند سعيد بن جبير فقال: أيكم رأى الكوكب الذي انقض البارحة؟ قلت: أنا ثم قلت: أما إني لم أكن في صلاة ولكني لدغت قال: فماذا صنعت؟ قلت: استرقيت قال: فما حملك على ذلك؟ قلت: حديث حدثناه الشعبي فقال: وما حدثكم الشعبي؟ قلت: حدثنا عن بريدة بن حصيب الأسلمي أنه قال: لا رقية إلا من عين أو حمة فقال: قد أحسن من انتهى إلى ما سمع ولكن حدثنا ابن عباس عن النبيصلى الله عليه وسلم قال: (عرضت عليَّ الأمم فرأيت النبي ومعه الرهيط والنبي ومعه الرجل والرجلان والنبي ليس معه أحد إذ رفع لي سواد عظيم فظننت أنهم أمتي فقيل لي: هذا موسى عليه الصلاة والسلام وقومه ولكن انظر إلى الأفق فإذا سواد عظيم فقيل لي انظر إلى الأفق الآخر فإذا سواد عظيم فقيل لي هذه أمتك ومعهم سبعون ألفاً يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب ثم نهض فدخل منزله فخاض الناس في أولئك الذين يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب فقال بعضهم: فلعلهم الذين صحبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال بعضهم: فلعلهم الذين ولدوا في الإسلام ولم يشركوا بالله وذكروا أشياء فخرج عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ما الذي تخوضون فيه؟ فأخبروه فقال: هم الذين لا يرقون ولا يسترقون ولا يتطيرون وعلى ربهم يتوكلون فقام عكاشة بن محصن فقال: ادع الله أن يجعلني منهم فقال: أنت منهم، ثم قام رجل آخر فقال: ادع الله أن يجعلني منهم فقال: سبقك بها عكاشة) رواه البخاري ومسلم واللفظ لمسلم. صحيح مسلم بشرح النووي ١/٤٤٩-٤٥٠. وقد رواه الإمام البخاري في باب يدخل الجنة سبعون ألفاً بغير حساب. صحيح البخاري مع شرحه فتح الباري ١٤/١٩٧. وشرحه الإمام النووي تحت عنوان باب الدليل على دخول طوائف من المسلمين الجنة بغير حساب ولا عذاب. شرح النووي على صحيح مسلم ١/٤٤٦. وقد جعل العلامة ابن القيم ف كتابه (حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح أو وصف الجنة) باباً بعنوان فيمن يدخل الجنة من هذه الأمة بغير حساب وذكر أوصافهم. ص١٨٥. وأما صفات هؤلاء الذين يدخلون الجنة بغير حساب نسأل الله تعالى أن يجعلنا منهم فهي المذكورة في الحديث: (لا يرقون ولا يسترقون ولا يتطيرون وعلى ربهم يتوكلون) . وفي رواية في الصحيحين: (هم الذين لا يكتوون ولا يسترقون وعلى ربهم يتوكلون) . وقوله صلى الله عليه وسلم: (لا يرقون ولا يسترقون) مأخوذ من الرقية وهي العوذة التي يرقى بها صاحب الآفة. والرقية الشرعية تكون بقراءة القرآن الكريم والأدعية المأثورة ونحوها لطلب الشفاء من المرض أو لدفع الضرر. والرقية مشروعة عند أكثر أهل العلم بشروط. وقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم من خصائص الذين يدخلون الجنة بغير حساب أنهم لا يرقون ولا يسترقون وفي هذا إشارة إلى عظيم توكلهم على الله سبحانه وتعالى فتركوا الرقى لأنفسهم ولغيرهم. فتركهم للرقى على جهة التوكل على الله تعالى والرضا بما يقضيه من قضاء وينزل به من بلاء وهذه أرفع درجات المحققين بالإيمان كما قال الإمام الخطابي. انظر المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم ١/٤٦٤. وقوله صلى الله عليه وسلم: (لا يكتوون) مأخوذ من الكي بالنار وهو أسلوب معروف في العلاج وهو مشروع وثابت في عدد من الأحاديث وصح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (وما أحب أن أكتوي) رواه البخاري ومسلم. وقوله صلى الله عليه وسلم: (لا يتطيرون) مأخوذ من الطيرة وهي التشاؤم والطيرة محرمة شرعاً وقد صح في الحديث من قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا عدوى ولا طيرة ولا هامة ولا صفر) رواه البخاري ومسلم. وقوله صلى الله عليه وسلم: (وعلى ربهم يتوكلون) والتوكل على الله هو الثقة بالله تعالى والإيقان بأن قضاءه نافذ واتباع سنة نبيه صلى الله عليه وسلم في السعي فيما لا بد منه من المطعم والمشرب والتحرز من العدو كما فعله الأنبياء صلوات الله عليهم وسلامه أجمعين فالأخذ بالأسباب لا ينافي التوكل. انظر شرح النووي على صحيح مسلم ١/٤٤٨. قال الشيخ سليمان بن عبد الوهاب: [قوله: (وعلى ربهم يتوكلون) ذكر الأصل الجامع الذي تفرعت عنه هذه الأفعال وهو التوكل على الله وصدق الالتجاء إليه والاعتماد بالقلب عليه الذي هو خلاصة التفريد ونهاية تحقيق التوحيد الذي يثمر كل مقام شريف من المحبة والخوف والرجاء والرضى به رباً وإلهاً والرضى بقضائه بل ربما أوصل العبد إلى التلذذ بالبلاء وعده من النعماء فسبحانه من يتفضل على من يشاء بما يشاء والله ذو الفضل العظيم. واعلم أن الحديث لا يدل على أنهم لا يباشرون الأسباب أصلاً كما يظنه الجهلة فإن مباشرة الأسباب في الجملة أمر فطري ضروري لا انفكاك لأحد عنه حتى الحيوان البهيم بل نفس التوكل مباشرة لأعظم الأسباب كما قال تعالى: (وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ) أي كافيه إنما المراد أنهم يتركون الأمور المكروهة مع حاجتهم إليها توكلاً على الله كالاسترقاء والاكتواء فتركهم له ليس لكونه سبباً لكن لكونه سبباً مكروهاً لا سيما والمريض يتشبث بما يظنه سبباً لشفائه بخيط العنكبوت أما نفس مباشرة الأسباب والتداوي على وجه لا كراهية فيه فغير قادح في التوكل فلا يكون تركه مشروعاً كما في الصحيحين عن أبي هريرة مرفوعاً: [ما أنزل الله من داء إلا أنزل له شفاء] وعن أسامة بن شريك قال: كنت عند النبي صلى الله عليه وسلم وجاءت الأعراب فقالوا يا رسول الله: أنتداوى؟ فقال: (نعم يا عباد الله تداووا فإن الله عز وجل لم يضع داء إلا وضع له شفاء غير داء واحد فقالوا: وما هو؟ قال: الهرم) رواه أحمد. قال ابن القيم: [فقد تضمنت هذه الأحاديث إثبات الأسباب والمسببات وإبطال قول من أنكرها والأمر بالتداوي وأنه لا ينافي التوكل كما لا ينافيه دفع داء الجوع والعطش والحر والبرد بأضدداها بل لا تتم حقيقة التوحيد إلا بمباشرة الأسباب التي نصبها الله مقتضيات لمسبباتها قدراً وشرعاً وإن تعطيلها يقدح بمباشرته في نفس التوكل كما يقدح في الأمر والحكمة ويضعفه من حيث يظن معطلها أن تركها أقوى من التوكل فإن تركها عجز ينافي التوكل الذي حقيقته اعتماد القلب على الله في حصول ما ينفع العبد في دينه ودنياه ودفع ما يضره في دينه ودنياه ولا بد مع هذا الاعتماد من مباشرة الأسباب وإلا كان معطلاً للأمر والحكمة والشرع فلا يجعل العبد عجزه توكلاً ولا توكله عجزاً] تيسير العزيز الحميد ص٨٦-٨٧.

<<  <  ج: ص:  >  >>