للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[٥١ - رؤية النبي صلى الله عليه وسلم في المنام]

يقول السائل: إذا رأى شخص في المنام النبي صلى الله عليه وسلم فأمره أو نهاه فما الحكم الشرعي لذلك؟

الجواب: قامت الأدلة الصحيحة على إمكانية رؤية الرسول صلى الله عليه وسلم في المنام فقد روى الإمام البخاري في صحيحه بسنده عن أبي هريرة رضي الله عنه قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (من رآني في المنام فسيراني في اليقظة ولا يتمثل الشيطان بي) . وروى البخاري بسنده أيضاً عن أنس رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من رآني في المنام فقد رآني فإن الشيطان لا يتمثل بي ورؤيا المؤمن جزء من ستة وأربعين جزءً من النبوة) . وروى بسنده عن أبي قتادة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (الرؤيا الصالحة من الله والحلم من الشيطان فمن رأى شيئاً يكرهه فلينفث عن شماله ثلاثاً وليتعوذ من الشيطان فإنها لا تضره وإن الشيطان لا يتراءى بي) . وروى بسنده أيضاً عن أبي قتادة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من رآني فقد رأى الحق) . وروى بسنده أيضاً عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (من رآني فقد رأى الحق فإن الشيطان لا يتكونني) . وقد دلت هذه الأحاديث على جواز رؤية النبي صلى الله عليه وسلم في المنام وهذا أمر مشهور ومعروف عن أهل العلم. وأما إذا رأى شخص النبي صلى الله عليه وسلم في المنام فأمره بشيء أو نهاه عن شيء فهل يعتبر ذلك تبليغاً من النبي صلى الله عليه وسلم يجب العمل بمقتضاه؟ فالصحيح من أقوال أهل العلم في هذه المسألة أن رؤية النبي صلى الله عليه وسلم في المنام وأمره بشيء أو نهيه عن شيء أو كلامه في أمر شرعي لا يثبت بذلك كله حكم شرعي ولا يكون ذلك حجة ولا دليلاً إلا أن يكون ما ورد في رؤية النبي صلى الله عليه وسلم أمر ثابت في الشريعة الإسلامية فالحجة لما هو ثابت في الشريعة ولا حجة لما ورد في الرؤيا بل الأصل هو ما ورد في الشريعة، قال الإمام الشاطبي: [ربما قال بعضهم: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في النوم فقال لي كذا وأمرني بكذا فيعمل بها ويترك بها معرضاً عن الحدود الموضوعة في الشريعة وهو خطأ لأن الرؤيا من غير الأنبياء لا يحكم بها شرعاً على حال إلا أن تعرض على ما في أيدينا من الأحكام الشرعية فإن سوغتها عمل بمقتضاها وإلا وجب تركها والإعاض عنها وإنما فائدتها البشارة أو النذارة خاصة وأما استفادة الأحكام فلا] الاعتصام ٢/٣١٨. وقال الشاطبي أيضاً: [ولا يقال: إن الرؤيا من أجزاء النبوة فلا ينبغي أن تهمل وأيضاً إن المخبر في المنام قد يكون النبي صلى الله عليه وسلم وهو قد قال: (من رآني في النوم فقد رآني حقاً فإن الشيطان لا يتمثل بي) وإذا كان فإخباره في النوم كإخباره في اليقظة. لأنا نقول: إن كانت الرؤيا من أجزاء النبوة فليست إلينا من كمال الوحي بل جزء من أجزائه والجزء لا يقوم مقام الكل في جميع الوجوه بل إنما يقوم مقامه في بعض الوجوه وقد صرفت إلى جهة البشارة والنذارة وفيها كاف] الاعتصام ٢/٣١٩. وقال الشاطبي أيضاً: [وأما الرؤيا التي يخبر فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم الرائي بالحكم فلا بد من النظر فيها أيضاً لأنه إذا أخبر بحكم موافق لشريعته فالحكم بما استقر وإن أخبر بمخالف فمحال لأنه صلى الله عليه وسلم لا ينسخ بعد موته شريعته المستقرة في حياته لأن الدين لا يتوقف استقراره بعد موته على حصول المرائي النومية لأن ذلك باطل بالإجماع فمن رأى شيئاً من ذلك فلا عمل عليه وعند ذلك نقول: إن رؤياه غير صحيحة إذ لو رآه حقاً لم يخبره بما يخالف الشرع] المصدر السابق ٢/٣٢١. وقال الشاطبي أيضاً: [وعلى الجملة فلا يستدل بالرؤيا في الأحكام إلا ضعيف المنة نعم يأتي المرئي تأنيساً ونذارة خاصة بحيث لا يقطعون بمقتضاها حكماً ولا يبنون عليه أصلاً وهو الاعتدال في أخذها حسبما فهم من الشرع فيها والله أعلم] المصدر السابق ٢/٣٢٢. وقال الإمام القرافي: [فلو رآه صلى الله عليه وسلم فقال له إن امرأتك طالق ثلاثاً وهو يجزم بأنه لم يطلقها فهل تحرم عليه؟ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يقول إلا حقاً. وقع فيه البحث مع الفقهاء واضطربت آراؤهم في ذلك بالتحريم وعدمه لتعارض خبره صلى الله عليه وسلم عن تحريمها في النوم وإخباره في اليقظة في شريعته المعظمة أنها مباحة له والذي يظهر لي أن إخباره عليه الصلاة والسلام في اليقظة مقدم على الخبر في النوم لتطرق الاحتمال للرائي بالغلط في ضبط المثال فإذا عرضنا على أنفسنا احتمال طروء الطلاق مع الجهل به واحتمال طروء الغلط في المثال في النوم وجدنا الغلط في المثال أيسر وأرجح ومن هو من الناس يضبط المثال على النحو المتقدم إلا أفراداً قليلةً من الحفاظ لصفته صلى الله عليه وسلم وأما ضبط عدم الطلاق فلا يختل إلا على النادر من الناس والعمل بالراجح متعين وكذلك لو قال له عن حلال إنه حرام أو عن حرام إنه حلال أو عن حكم من أحكام الشريعة قدمنا ما ثبت في اليقظة على ما رأى في النوم لما ذكرناه كما لو تعارض خبران من أخبار اليقظة صحيحان فإنا نقدم الأرجح بالسند أو باللفظ أو بفصاحته أو قلة الاحتمال في المجاز أو غيره فكذلك خبر اليقظة وخبر النوم يخرجان على هذه القاعدة] الفروق ٤/٢٤٥-٢٤٦. وذكر الحافظ ابن حجر عن أبي محمد بن أبي جمرة أحد شراح الحديث قوله: [وكذلك يقال في كلامه صلى الله عليه وسلم في النوم أنه يعرض على سنته صلى الله عليه وسلم فما وافقها فهو هو وما خالفها فالخلل في سمع الرائي فرؤيا الذات الكريمة حق والخلل إنما هو في سمع الرائي أو بصره قال: وهذا خير ما سمعته في ذلك] فتح الباري ١٢/٤٨٤. وقال الحافظ ابن حجر: [ويؤخذ من هذا ما تقدم التنبيه عليه أن النائم لو رأى النبي صلى الله عليه وسلم يأمره بشيء هل يجب عليه امتثاله ولا بد؟ أو لا بد أن يعرضه على الشرع الظاهر فالثاني هو المعتمد كما تقدم] المصدر السابق ١٢/٤٨٦. وقال الشوكاني بعد أن ذكر أقوال أهل العلم في المسألة: [ولا يخفاك أن الشرع الذي شرعه الله لنا على لسان نبينا صلى الله عليه وسلم قد كمله الله عز وجل وقال: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) ولم يأتنا دليل يدل على أن رؤيته في النوم بعد موته صلى الله عليه وسلم إذا قال فيها بقول أو فعل فيها فعلاً يكون دليلاً وحجة بل قبضه الله إليه عند أن كمل لهذه الأمة ما شرعه لها على لسانه ولم يبق بعد ذلك حاجة للأمة في أمر دينها وقد انقطعت البعثة لتبليغ الشرائع وتبيينها بالموت وإن كان رسولاً حياً وميتاً وبهذا تعلم أن لو قدرنا ضبط النائم لم يكن ما رآه من قوله صلى الله عليه وسلم أو فعله حجة عليه ولا على غيره من الأمة] إرشاد الفحول ٢٤٩. وبعد هذا العرض لأقوال العلماء في مسألة رؤية النبي صلى الله عليه وسلم نخلص إلى أنه لا يجوز الاعتماد على رؤية النبي صلى الله عليه وسلم في إثبات حكم شرعي أو نفي حكم شرعي لأن الرسالة قد تمت وكملت قبل وفاة النبي صلى الله عليه وسلم ولم يكن من شأن الصحابة رضوان الله عليهم ولا سلف الأمة الاعتماد على رؤية النبي صلى الله عليه وسلم في إثبات الأحكام الشرعية أو نفيها.

<<  <  ج: ص:  >  >>