للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[٢٦ - تسمية المسجد باسم شخص]

يقول السائل: إنه سمع أحد المشايخ في إحدى الفضائيات يمنع تسمية المسجد باسم شخص معين فما قولكم في ذلك أفيدونا؟

الجواب: إن بناء المساجد من الأمور المرغب فيها شرعاً وقد ورد عن الرسول صلى الله عليه وسلم أحاديث كثيرة في فضل بناء المساجد والمشاركة في بنائها فمن ذلك: عن عثمان بن عفان رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من بنى لله مسجداً بنى الله له بيتاً في الجنة) رواه البخاري ومسلم. وعن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من بنى لله مسجداً قدر مفحص قطاة بنى الله له بيتاً في الجنة) رواه ابن حبان والبزار والطبراني في الصغير وقال الشيخ الألباني: حديث صحيح. وهذا الحديث يدل على المشاركة في بناء المسجد لأن مفحص القطاة لا يكفي ليكون مسجداً. ومفحص القطاة هو المكان الذي تفحصه القطاة لتضع فيه بيضها وترقد عليه. وعن أنس رضي الله عنه أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (من بنى لله مسجداً صغيراً كان أو كبيراً بنى الله له بيتاً في الجنة) رواه الترمذي وقال الشيخ الألباني: حديث حسن. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن مما يلحق المؤمن من عمله وحسناته بعد موته علماً علَّمه ونشره أو ولداً صالحاً تركه أو مصحفاً ورثه أو مسجداً بناه أو بيتاً لابن السبيل بناه أو نهراً أجراه أو صدقة أخرجها من ماله في صحته وحياته تلحقه من بعد موته) رواه ابن ماجة وابن خزيمة والبيهقي وقال الشيخ الألباني: وإسناد ابن ماجة حسن. انظر صحيح الترغيب والترهيب ص ١٠٩-١١١.

إذا تقرر هذا فإن إضافة المساجد لله تعالى إنما هي إضافة تشريف كما ورد في قوله تعالى {وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحداً} سورة الجن الآية ١٨. وقال تعالى {ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه وسعى في خرابها أولئك ما كان لهم أن يدخلوها إلا خائفين لهم في الدنيا خزي ولهم في الآخرة عذاب عظيم} سورة البقرة الآية ١١٤.

وقال تعالى {ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله شاهدين على أنفسهم بالكفر أولئك حبطت أعمالهم وفي النار هم خالدون

إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر وأقام الصلاة وآتى الزكاة ولم يخش إلا الله فعسى أولئك أن يكونوا من المهتدين} سورة التوبة الآيتان ١٧- ١٨. قال الإمام ابن العربي المالي [المساجد وإن كانت لله ملكاً وتشريفاً فإنها قد نسبت إلى غيره تعريفاً , فيقال: مسجد فلان. وفي صحيح الحديث (أن النبي صلى الله عليه وسلم سابق بين الخيل التي أضمرت من الحيفاء وأمدها ثنية الوداع , وسابق بين الخيل التي لم تضمر من الثنية إلى مسجد بني زريق) وتكون هذه الإضافة بحكم المحلية , كأنها في قبلتهم , وقد تكون بتحبيسهم , فإن الأرض لله ملكاً , ثم يخص بها من يشاء , فيردها إليه , ويعينها لعبادته , فينفذ ذلك بحكمه , ولا خلاف بين الأمة في تحبيس المساجد والقناطر والمقابر وإن اختلفوا في تحبيس غير ذلك] أحكام القرآن لابن العربي ٤/١٨٦٩.

وقد ترجم الإمام البخاري في صحيحه (باب هل يقال مسجد بني فلان) ثم روى بإسناده عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سابق بين الخيل التي أضمرت من الحفياء وأمدها ثنية الوداع وسابق بين الخيل التي لم تضمر من الثنية إلى مسجد بني زريق وأن عبد الله بن عمر كان فيمن سابق بها) . قال الحافظ ابن حجر العسقلاني [قوله (باب هل يقال مسجد بني فلان) أورد فيه حديث ابن عمر في المسابقة, وفيه قول ابن عمر " إلى مسجد بني زريق " وزريق بتقديم الزاي مصغراً , ويستفاد منه جواز إضافة المساجد إلى بانيها أو المصلي فيها , ويلتحق به جواز إضافة أعمال البر إلى أربابها , وإنما أورد المصنف الترجمة بلفظ الاستفهام لينبه على أن فيه احتمالاً إذ يحتمل أن يكون ذلك قد علمه النبي صلى الله عليه وسلم بأن تكون هذه الإضافة وقعت في زمنه , ويحتمل أن يكون ذلك مما حدث بعده , والأول أظهر والجمهور على الجواز , والمخالف في ذلك إبراهيم النخعي فيما رواه ابن أبي شيبة عنه أنه كان يكره أن يقول مسجد بني فلان ويقول مصلى بني فلان لقوله تعالى (وأن المساجد لله) , وجوابه أن الإضافة في مثل هذا إضافة تمييز لا ملك ... (تنبيه) : الحفياء بفتح المهملة وسكون الفاء بعدها ياء أخيرة ممدودة, والأمد الغاية. واللام في قوله " الثنية " للعهد من ثنية الوداع.] فتح الباري ١/٦٦٧. وثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم قد أضاف المسجد لنفسه الشريفة كما صح في الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام) رواه البخاري ومسلم.

وروى الإمام أحمد وابن ماجة عن عبد الله بن عبد الرحمن رضي الله عنه قال: (جاءنا النبي صلى الله عليه وسلم فصلى بنا في مسجد بني عبد الأشهل فرأيته واضعاً يديه على ثوبه إذا سجد) قال في الزوائد إسناده متصل. سنن ابن ماجة ١/٣٢٩.

وعن ابن عمر رضي الله عنه (أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل مسجد بني عمرو بن عوف فدخل الناس يسلمون عليه وهو في الصلاة قال فسألت صهيباً كيف كان يرد عليهم قال هكذا وأشار بيده) رواه الدارمي وغيره وهو صحيح على شرط الصحيحين كما في فتح المنان ٦/٣٧٥. قال الإمام النووي [ولا بأس أن يقال مسجد فلان ومسجد بني فلان على سبيل التعريف] المجموع ٢/ ١٨٠. ويضاف إلى ما سبق أن المسلمين على مر العصور والأيام قد تعارفوا على تسمية المساجد بأسماء الأشخاص سواء كانوا صحابة أو علماء أو قادة أو غيرهم، قال الشيخ العلامة د. بكر أبو زيد حفظه الله تعالى [إن المساجد قد حصل بالتتبع وجود تسميتها على الوجوه الآيتة وهي: أولاً: تسمية المسجد باسم حقيقي، كالآتي: ١. إضافة المسجد إلى من بناه، وهذا من إضافة أعمال البر إلى أربابها، وهي إضافة حقيقية للتمييز، وهذه تسمية جائزة ومنها: ((مسجد النبي صلى الله عليه وسلم)) ويُقال: ((مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم)) . ٢. إضافة المسجد إلى من يصلي فيه، أو إلى المحلة، وهي إضافة حقيقية للتمييز فهي جائزة ومنها: ((مسجد قباء)) و ((مسجد بني زريق)) ، كما في الصحيحين من حديث ابن عمر – رضي الله عنهما – في حديث المسابقة إلى مسجد بني زريق. ((ومسجد السوق)) . كما ترجم البخاري – رحمه الله – بقوله: ((باب العلماء في مسجد السوق)) . ٣. إضافة المسجد إلى وصف تميز به مثل: ((المسجد الحرام)) و ((المسجد الأقصى)) كما في قوله تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى} [الاسراء: من الآية١] . وفي السنة ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجوه متعددة: ((لا تعمل المطي إلا لثلاثة مساجد: المسجد الحرام. والمسجد الأقصى. ومسجدي هذا)) . ومنه: ((المسجد الكبير)) . وقد وقع تسمية بعض المساجد التي على الطريق بين مكة والمدينة باسم: ((المسجد الأكبر)) . كما في صحيح البخاري، ومثله يُقال: ((الجامع الكبير)) .

ثانياً: تسمية المسجد باسم غير حقيقي لكي يتميز ويعرف به. وهي ظاهرة منتشرة في عصرنا؛ لكثرة بناء المساجد وانتشارها ولله الحمد في بلاد المسلمين، في المدينة وفي القرية، بل في الحي الواحد، فيحصل تسمية المسجد باسم يتميز به، واختيار إضافته إلى أحد وجوه الأُمة وخيارها من الصحابة رضي الله عنهم، فمن بعدهم من التابعين لهم بإحسان، مثل: ((مسجد أبي بكر رضي الله عنه)) ، ((مسجد عمر رضي الله عنه)) ، وهكذا للتعريف، فهذه التسمية لا يظهر بها بأس، لاسيما وقد عُرف من هدي النبي صلى الله عليه وسلم تسميته: سلاحه، وأثاثه، ودوابه، وملابسه، كما بينها ابن القيم – رحمه الله تعالى – في أول كتاب زاد المعاد ...

ثالثاً: تسمية المسجد باسم من أسماء الله تعالى مثل: ((مسجد الرحمن)) ، ((مسجد القدوس)) ، ((مسجد السلام)) ، ومعلوم أن الله سبحانه قال وقوله الفصل: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً} [الجن: ١٨] . فالمساجد جميعها لله تعالى بدون تخصيص، فتسمية مسجد باسم من أسماء الله ليكتسب العلمية على المسجد أمر محدث لم يكن عليه من مضى، فالأولى تركه ... ] معجم المناهي اللفظية ص ٥٠٤ – ٥٠٦. قلت ما ذكره الشيخ أخيراً من أن الأولى عدم تسمية المساجد بنحو ((مسجد الرحمن)) ، ((مسجد القدوس)) ، ((مسجد السلام)) لا أرى فيه بأساً فتجوز إضافة المساجد إلى أسماء الله الحسنى.

وخلاصة الأمر أنه لا حرج في تسمية المساجد بأسماء أشخاص وإن كنت أفضل أن لا يسمى مسجد باسم شخص قد بناه إذا كان الباني حياً وذلك بعداً عن الرياء وأما بعد موته فلا بأس بتسمية المسجد باسم بانيه، كما ينبغي أن تسمى المساجد بأسماء الصحابة والتابعين والأئمة والقادة الصالحين ونحوهم.

<<  <  ج: ص:  >  >>