للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[٨٢ - الزمن والمواقيت]

يقول السائل: ما قولكم في أن كثيراً من الناس والمؤسسات الرسمية وغيرها تستعمل الأشهر الميلادية في التأريخ لمراسلاتها وكتاباتها وقد أدى هذا الأمر إلى أن كثيراً من الناس لا يكادون يعرفون الأشهر الهجرية وكذلك فهنالك دعاوى لتغيير الأرقام العربية إلى أرقام أوروبية، أفيدونا وجزاكم الله خيراً؟

الجواب: مما يؤسف له أن هجمة التغريب التي تعرضت لها الأمة المسلمة قد امتدت إلى كل ما يتعلق بالأمة الإسلامية، دينها ولغتها وعاداتها وتقاليدها. وقد لقيت دعوات التغريب آذاناً صاغيةً وأيادٍ منفذة لهذه الأفكار ولم يسلم شيء تقريباً من هذه الهجمات التغريبية ومن ضمن ذلك اعتماد التأريخ الميلادي في مختلف شؤون الحياة والدعوة إلى استبدال رسم الأرقام العربية بالأرقام الأوروبية. أما بالنسبة لاعتماد التأريخ الميلادي فيجب أن يعلم أن التاريخ الهجري هو سمة من سمات الأمة الإسلامية لا يجوز الاستغناء عنه واستبداله بالتاريخ الميلادي بشكل تام. ومن المعلوم أن عمر بن الخطاب هو الذي سن فكرة التأريخ من أول محرم، قال ابن الأثير: [والصحيح المشهور أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أمر بوضع التأريخ والسبب في ذلك: أن أبا موسى الأشعري كتب إلى عمر أنه يأتينا منك كتب ليس لها تأريخ. فجمع عمر الناس للمشورة فقال بعضهم: أرخ بمبعث النبي صلى الله عليه وسلم وقال بعضهم: بمهاجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال عمر: بل نؤرخ بمهاجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن مهاجرته فرق بين الحق والباطل، قال الشعبي: وقال محمد بن سيرين: قام رجل إلى عمر، فقال: أرخوا، فقال عمر: ما أرخوا؟ فقال: شيء تفعله الأعاجم في شهر كذا من سنة كذا، فقال عمر حسن فأرخوا فاتفقوا على الهجرة ثم قالوا: من أي الشهور؟ فقالوا: من رمضان، ثم قالوا: فالمحرم هو منصرف الناس من حجهم وهو شهر حرام فأجمعوا عليه] التشبه المنهي عنه ص ٥٤٣-٥٤٤. إن علماء الأمة كرهوا استعمال التقويم الميلادي لما له من ارتباط ديني عند النصارى وهو ميلاد عيسى عليه السلام ولا يجوز التشبه بهم في أمر دينهم، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: [وما زال السلف يكرهون تغيير شعائر العرب في المعاملات وهو التكلم بغير العربية إلا لحاجة كما نص على ذلك مالك والشافعي وأحمد. بل قال مالك من تكلم في مسجدنا بغير العربية أخرج منه مع أن سائر الألسن يجوز النطق بها لأصحابها ولكن سوغوها للحاجة وكرهوها لغير الحاجة. ولحفظ شعائر الإسلام فإن الله أنز كتابه باللسان العربي وبعث نبيه العربي وجعل الأمة العربية خير الأمم فصار حفظ شعارهم من تمام حفظ الإسلام] مجموع فتاوى شيخ الإسلام ٣٢/٢٥٥. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية أيضاً: [وأما الرطانة وتسمية شهورهم بالأسماء العجمية فقال أبو محمد الكرماني - المسمى بحرب -: باب تسمية الشهور بالفارسية: قلت لأحمد: فإن للفرس أياماً وشهوراً يسمونها بأسماء لا تعرف؟ فكره ذلك أشد الكراهة وروى فيه عن مجاهد حديثاً أنه كره أن يقال: آذرماه، وذي ماه - أسماء شهور فارسية - قلت: فإن كان اسم رجل أسميه به؟ فكرهه. قال: وسألت إسحاق قلت: تاريخ الكتاب يكتب بالشهور الفارسية مثل: آذرماه، وذي ماه؟ قال: إن لم يكن في تلك الأسامي اسم يكره فأرجو. قال وكان ابن المبارك يكره إيزدان يحلف به، وقال: لا آمن أن يكون أضيف إلى شيء يعبد وكذلك الأسماء الفارسية قال: وكذلك أسماء العرب كل شيء مضاف. قال: وسألت إسحاق مرة أخرى قلت: الرجل يتعلم شهور الروم والفرس؟ قال: كل اسم معروف في كلامهم فلا بأس. فما قاله أحمد من كراهة الأسماء له وجهان: أحدهما: إذا لم يعرف معنى الاسم جاز أن يكون معنى محرماً فلا ينطق المسلم بما لا يعرف معناه ولهذا كرهت الرقى العجمية كالعبرانية أو السريانية أو غيرها خوفاً أن يكون فيها معان لا تجوز. وهذا المعنى هو الذي اعتبره إسحاق لكن إن علم أن المعنى مكروه فلا ريب في كراهته وإن جهل معناه فأحمد كرهه وكلام إسحاق يحتمل أنه لم يكرهه. الوجه الثاني: كراهته أن يتعود الرجل النطق بغير العربية فإن اللسان العربي شعار الإسلام وأهله واللغات من أعظم شعائر الأمم التي بها يتميزون] اقتضاء الصراط المستقيم ١/ ٥١٨-٥١٩. وكذلك فإن في اعتماد التأريخ الميلادي ربطاً لأجيال المسلمين بتأريخ النصارى وأعيادهم وإبعاداً لهم عن تأريخهم الهجري الذي ارتبط برسولهم عليه الصلاة والسلام وبشعائر دينهم وعبادتهم. قال القرطبي: تعليقاً على قوله تعالى: (إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ) سورة التوبة الآية ٣٦. قال: [هذه الآية تدل على أن تعلق الأحكام في العبادات وغيرها إنما يكون بالشهور والسنين التي تعرفها العرب دون الشهور التي تعتبرها العجم والروم والقبط وإن لم تزد على اثني عشر شهراً لأنها مختلفة الأعداد منها ما يزيد على ثلاثين ومنها ما ينقص وشهور العرب لا تزيد على ثلاثين وإن كان منها ما ينقص] التشبه المنهي عنه ص ٥٤٤-٥٤٥. وخلاصة الأمر أنه لا يجوز إهمال استعمال التقويم الهجري واستعمال التقويم الميلادي بدلاً عنه. والأصل أن نستعمل التقويم الهجري ولا بأس باستعمال التقويم الميلادي إلى جانبه. وأما بالنسبة لتغيير الأرقام العربية إلى الأرقام الأوروبية فيجب أن يعلم أن الزعم بأن الأرقام التي نستعملها حالياً " ١، ٢، ٣ ... " هي أرقام هندية وأن الأرقام الأوروبية " ١,٢,٣ ... " هي الأرقام العربية كلام غير صحيح لم تقم عليه أدلة معتبرة وإنما ذلك مجرد دعوى وقد بحث هذه المسألة المجمع الفقهي التابع لرابطة العالم الإسلامي وكذلك هيئة كبار العلماء السعودية وقد صدر عن المجمع القرار التالي: [فإن مجلس المجمع الفقهي الإسلامي قد نظر في الكتاب الوارد ... المتضمن أن هناك نظرية تشيع بين بعض المثقفين مفادها أن الأرقام العربية في رسمها الراهن هي أرقام هندية وأن الأرقام الأوروبية هي الأرقام العربية الأصلية ويقودهم هذا الإستنتاج إلى خطوة أخرى هي الدعوة إلى اعتماد الأرقام في رسمها الأوروبي في البلاد العربية داعمين هذا المطلب بأن الأرقام الأوروبية أصبحت وسيلة للتعامل الحسابي مع الدول والمؤسسات الأجنبية التي باتت تملك نفوذاً واسعاً في المجالات الاقتصادية والاجتماعية في البلدان العربية وإن ظهور أنواع الآلات الحسابية والكمبيوتر التي لا تستخدم إلا هذه الأرقام يجعل اعتماد رسم الأرقام الأوروبي في البلاد العربية أمراً مرغوباً فيه إن لم يكن شيئاً محتوماً لا يمكن تفاديه. واطلع المجلس على قرار مجلس هيئة كبار العلماء ... في هذا الموضوع والمتضمن أنه لا يجوز تغيير رسم الأرقام العربية المستعملة حالياً إلى رسم الأرقام المستعملة في العالم الغربي للأسباب التالية: أولاً: أنه لم يثبت ما ذكره دعاة التغيير من أن الأرقام المستعملة في الغرب هي الأرقام العربية بل إن المعروف غير ذلك والواقع يشهد له كما أن مضي القرون الطويلة على استعمال الأرقام الحالية في مختلف الأحوال والمجالات يجعلها أرقاماً عربيةً وقد وردت في اللغة العربية كلمات لم تكن في أصولها عربية وباستعمالها أصبحت من اللغة العربية حتى أنه وجد شيء منها في كلمات القرآن الكريم - وهي التي توصف بأنها كلمات معربة -. ثانياً: إن الفكرة لها نتائج سيئة وآثار ضارة فهي خطوة من خطوات التغريب للمجتمع الإسلامي تدريجياً يدل لذلك ما ورد في الفقرة الرابعة من التقرير المرفق بالمعاملة ونصها: [صدرت وثيقة من وزراء الإعلام في الكويت تفيد بضرورة تعميم الأرقام المستخدمة في أوروبا لأسباب أساسها وجوب التركيز على دواعي الوحدة الثقافية والعلمية وحتى السياحية على الصعيد العالمي] . ثالثاً: إنها- أي هذه الفكرة - ستكون ممهدة لتغيير الحروف العربية واستعمال الحروف اللاتينية بدل العربية ولو على المدى البعيد. رابعاً: إنها أيضاً مظهر من مظاهر التقليد للغرب واستحسان طرائقه. خامساً: إن جميع المصاحف والتفاسير والمعاجم والكتب المؤلفة كلها تستعمل الأرقام الحالية في ترقيمها أو ف الإشارة إلى المراجع وهي ثروة عظيمة هائلة وفي استعمال الأرقام الإفرنجية الحالية - عوضاً عنها - ما يجعل الأجيال القادمة لا تستفيد من ذلك التراث بسهولة ويسر. سادساً: ليس من الضروري متابعة بعض البلاد العربية التي درجت على استعمال رسم الأرقام الأوروبية فإن كثيراً من تلك البلاد قد عطلت ما هو أعظم من هذا وأهم وهو تحكيم شريعة الله كلها مصدر العز والسيادة والسعادة في الدنيا والآخرة فليس عملها حجة. وفي ضوء ما تقدم يقرر مجلس المجمع الفقهي الإسلامي ما يلي: أولاً: التأكيد على مضمون القرار الصادر عن مجلس هيئة كبار العلماء في المملكة العربية السعودية في هذا الموضوع والمذكور آنفاً والمتضمن عدم جواز تغيير رسم الأرقام العربية المستعملة حالياً برسم الأرقام الأوروبية المستعملة في العالم الغربي للأسباب المبينة في القرار المذكور. ثانياً: عدم جواز قبول الرأي القائل بتعميم رسم الأرقام المستخدمة في أوروبا بالحجة التي استند إليها من قال ذلك، وذلك أن الأمة لا ينبغي أن تدع ما اصطلحت عليه قروناً طويلة لمصلحة ظاهرة وتتخلى عنه تبعاً لغيرها. ثالثاُ: تنبيه ولاة الأمور في البلاد العربية إلى خطورة هذا الأمر والحيلولة دون الوقوع في شرك هذه الفكرة الخطيرة العواقب على التراث العربي والإسلامي] قرارات المجمع الفقهي والإسلامي ص ١٢٩-١٣١. وخلاصة الأمر أن استعمال رطانة الأعاجم في شهورهم وسنينهم وحساباتهم وغيرها تضعف الأمة بجعلها تابعة لغيرها مفضلة له على نفسها وتضعف لغتها وسائر روابطها كما هو مشاهد في الأمصار التي قلدت الإفرنج في هذه الأمور وأمثالها حتى ضاع استقلالهم وعزهم. الآداب الشرعية ٣/٤٣٢. ?????

<<  <  ج: ص:  >  >>