للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[١٠١ - أول خلق الله]

يقول السائل: إنه قرأ في إحدى النشرات التي وزعت في بعض المساجد أن نبينا محمد صلى الله عليه وسلم هو أول مخلوقات الله، فما قولكم في ذلك؟

الجواب: إن الزعم بأن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم هو أول خلق الله كما يقول بعض الدجالين ما هو إلا كذب وافتراء على دين الله والإسلام منه بريء. وهذا من الغلو في رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد نهى الرسول صلى الله عليه وسلم عن الغلو فقد جاء في الحديث عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إياكم والغلو في الدين إنما هلك من كان قبلكم بالغلو في الدين) رواه أحمد والنسائي وابن ماجة وهو حديث صحيح كما قال الشيخ الألباني في السلسلة الصحيحة ١٢٨٣. وعن عمر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم فإنما أنا عبده فقولوا عبد الله ورسوله) رواه البخاري. والزعم بأن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم هو أول مخلوقات الله من ترهات الصوفية وضلالاتهم فمن المعروف عند أهل العلم أن المتصوفة قد انحرفوا انحرافاً خطيراً تجاه رسول الله صلى الله عليه وسلم وتجاوزا به المنزلة التي أنزله الله سبحانه وتعالى فادعوا أنه أول مخلوق وأنه مخلوق من نور وأن جميع ما في هذا الكون تفرع عنه بعد ذلك وأن جميع علوم الرسل الذين أرسلوا من قبله فاضت عليهم من علمه بل ادعوا بأن علم اللوح والقلم من علمه صلى الله عليه وسلم وأن الدنيا وما فيها والآخرة وما فيها من جوده صلى الله عليه وسلم إلى غير ذلك من الأباطيل التي قالها هؤلاء كشيخهم الأكبر ابن عربي فقد قال: [قال تعالى: (مثل نوره كمشكاة فيها مصباح) فشبه نوره بالمصباح فلم يكن أقرب إليه تعالى قبولاً في ذلك الهباء إلا حقيقة محمد صلى الله عليه وسلم المسماة بالعقل فكان سيد العالم بأسره وأول ظاهر في الوجود فكان وجوده من ذلك النور الإلهي ...) الفتوحات المكية ٢/٢٢٧. وقد اعتمد هؤلاء الدجاجلة على بعض الأحاديث المكذوبة لتأييد مزاعمهم الباطلة هذه فمنها ما نسبوه إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (كنت نبياً وآدم بين الماء والطين) فهذا الحديث مكذوب موضوع ومثله ما نسبوه إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (كنت نبياً ولا آدم ولا ماء ولا طين) فهذا الحديث أيضاً مكذوب موضوع كما قال العلامة الشيخ الألباني في سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة ١/٣١٦. وذكره السيوطي في ذيل الأحاديث الموضوعة وقال الزركشي لا أصل له بهذا اللفظ. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: [لا أصل له من نقل ولا من عقل فإن أحداً من المحدثين لم يذكره ومعناه باطل فإن آدم عليه السلام لم يكن بين الماء والطين فإن الطين ماء وتراب وإنما كان بين الروح والجسد ثم هؤلاء الضلال يتوهمون أن النبي صلى الله عليه وسلم كان حينئذ موجوداً وأن ذاته خلقت قبل الذوات ويستشهدون على ذلك بأحاديث مفتراة مثل حديث فيه أنه كان نوراً حول العرش فقال: يا جبريل أنا كنت ذلك النور ويدعي أحدهم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحفظ القرآن قبل أن يأتيه به جبريل] السلسلة الضعيفة ١/٣١٦. واحتجوا أيضاً بالحديث المكذوب: [كنت أول النبيين في الخلق وآخرهم في البعث] وهذا الحديث موضوع ذكره ملا علي القاري في الموضوعات الكبرى وذكره الشوكاني في الفوائد المجموعة في الأحاديث الموضوعة ص ٣٢٦، وذكر أن الصغاني قال أنه موضوع واحتجوا بما ورد في الحديث المكذوب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يا جابر إن الله تعالى قد خلق قبل الأشياء نور نبيك ... الخ) فحديث جابر هذا المنسوب إلى عبد الرزاق موضوع لا أصل له وقد عزاه غير واحد إلى عبد الرزاق خطأ فهو غير موجود في مصنفه ولا جامعه ولا تفسيره. ومن الذين نسبوه إلى عبد الرزاق ابن العربي الحاتمي في " تلقيح الأذهان " والديار بكري في كتاب " الخميس في تاريخ أنفس نفيس " والعجلوني في " كشف الخفاء " وفي " الأوائل العجلونية " وقال السيوطي في الحاوي في الفتاوى: أما حديث أولية النور المحمدي فلا يثبت. وقد حكم الشيخ عبد الله بن الصديق في رسالة " مرشد الحائر لبيان وضع حديث جابر " على هذا الحديث بالوضع وقد سبقه إلى ذلك أخوه أحمد بن الصديق فليتنبه إلى ذلك] شرح الزرقاني على المواهب ١/٨٩. وذكر الشيخ الألباني أنه باطل. السلسلة الصحيحة ٤٥٩ وبين بطلانه الشيخ أحمد الشنقيطي في رسالته بعنوان تنبه الحذاق على بطلان ما شاع بين الأنام من حديث النور المنسوب لمصنف عبد الرزاق. فهذه الأحاديث التي احتج بها هؤلاء مكذوبة لا تصلح لأن يثبت بها أمر من أمور العقيدة فالرسول محمد صلى الله عليه وسلم ليس أول مخلوق ولا هو مخلوق من نور كما يزعم المتصوفة بل الرسول صلى الله عليه وسلم مخلوق بشري خلق مما يخلق منه البشر ومرَّ بنفس الأدوار التي يمر بها البشر في بطن أمه ثم وضعته أمه كما تضع الأمهات ثم توفي عنه أبوه وتربى يتيماً مع أعمامه ومع هذا أقول: كوننا نقول إنه بشر مثلنا لا يحط هذا من مكانة الرسول صلى الله عليه وسلم بل الكل يقر بأن الرسول صلى الله عليه وسلم أفضل الخليقة على الإطلاق من إنس وجن وملائكة وله خصائص كثيرة خصه الله بها دون غيره من الرسل عليهم الصلاة والسلام. وبما أن الرسول محمداً صلى الله عليه وسلم من ذرية آدم عليه السلام كغيره من البشر وآدم أصله من تراب فإن أصل الرسول محمد أيضاً من تراب ومما يدل على أن أصل البشر من تراب الآيات التالية: قول الله تعالى: (وإذ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ) سورة ص الآيات ٧١-٧٤. وقوله تعالى: (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًاءَاخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ) سورة المؤمنون الآيات ١٢-١٤. وعلى هذا نقول إن أول مخلوق بشري هو آدم عليه السلام وبما أن الرسول صلى الله عليه وسلم من ذرية آدم عليه السلام فهو بشر إذن وقد خلق مما يخلق منه البشر وهو الماء كما في قوله تعالى: (إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا) سورة الإنسان الآية ٢. والرسول صلى الله عليه وسلم بشر فهو مخلوق إذاً من نطفة كغيره من البشر وقد أمره الله أن يقول إنه بشر بقوله تعالى: (قل إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا) سورة الكهف الآية ١١٠. ومعلوم أن الرسول صلى الله عليه وسلم ولد من أبوين قرشيين معروفين في القرن السادس الميلادي ولذا أقول إن اعتقاد المتصوفة أن الرسول صلى الله عليه وسلم أول مخلوق وأنه مخلوق من نور اعتقاد باطل يصطدم مع النصوص القرآنية والحديثية القاطعة التي تثبت بشرية الرسول محمد صلى الله عليه وسلم] مظاهر الانحرافات العقدية عند الصوفية ١/٣٧٤-٣٧٥. إن الغلو في شخصية المصطفى صلى الله عليه وسلم مخالف للعقيدة الصحيحة التي عليها أهل السنة والجماعة ومخالف لكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وإن الاعتقاد الصحيح في شخصية المصطفى صلى الله عليه وسلم هو كما جاء في كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم. قال الله تعالى: (قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ) سورة فصلت الآية ٦. وقال تعالى: (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ) سورة آل عمران الآية ١٤٤. وقال تعالى: (أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى) سورة الضحى الآيتان ٥-٦. وقال تعالى: (مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا) سورة الشورى الآية ٥٢. وقال تعالى: (وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا) سورة النساء الآية ١١٣. وقال تعالى: (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ) سورة الإسراء الآية ١. فسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم هو عبد الله ورسوله وهو بشر يجري عليه ما يجري على البشر في الأمور العادية وأوحى الله إليه وختم به النبوات والرسالات عليه أفضل الصلوات وأتم التسليمات ونحن حينما نعتقد في شخصية محمد صلى الله عليه وسلم ما أخبر به القرآن الكريم وما جاء عنه عليه الصلاة والسلام إنما نضع الأمور في موضعها الصحيح كما أراد الله سبحانه وتعالى وهذا هو الحق إن شاء الله وماذا بعد الحق إلا الضلال ولقد جاء في الحديث عن أنس أن رجلاً قال للنبي صلى الله عليه وسلم: (يا سيدنا وابن سيدنا ويا خيرنا وابن خيرنا فقال النبي صلى الله عليه وسلم: يا أيها الناس قولوا بقولكم ولا يستهوينكم الشيطان أنا محمد بن عبد الله ورسول الله والله ما أحب أن ترفعوني فوق ما رفعني الله عز وجل) رواه أحمد وسنده صحيح ورجاله ثقات كما قال الشيخ الساعاتي في الفتح الرباني ٢٢/٢١ وقال الشيخ الألباني: صحيح على شرط مسلم. غاية المرام ص ٩٩.

<<  <  ج: ص:  >  >>