للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[١٧٥ - القرآن الكريم]

يقول السائل: هل الاستماع والإنصات لقارئ القرآن الكريم، إذا كان يقرأ من الإذاعة أو في المسجد واجب لقوله تعالى: (وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) ؟

الجواب: يرى كثير من أهل العلم أن هذه الآية الكريمة (وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) سورة الأعراف /٢٠٤، قد نزلت في الصلاة، وهذا يدل على أن الإستماع لقراءة القرآن يكون واجباً حال قراءة الإمام للقرآن في الصلاة سواء كانت فرضاً أو نفلاً، ونقل ابن جرير الطبري شيخ المفسرين، أن هذه الآية نزلت في الصلاة عن جماعة من السلف، فقد روى ابن جرير بسنده عن أبي هريرة قال: (كانوا يتكلمون في الصلاة، فلما نزلت هذه الآية (وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ) ، أمروا بالإنصات. ورويَ مثل ذلك عن ابن عباس وابن مسعود والزهري وعطاء وعبيد بن عمير وعن سعيد بن المسيب ومجاهد وسعيد بن جبير والضحاك وإبراهيم النخعي وقتادة وغيرهم. وهذا أرجح أقوال أهل العلم في سبب نزول هذه الآية وبناءً عليه يكون الإستماع واجباً لقراءة الإمام في الصلاة. وأما الإستماع والإنصات لقراءة القارئ خارج الصلاة، سواء كان يقرأ من الإذاعة أو في المسجد أو كان يقرأ من المسجل فمندوبة، قال ابن عبد البر: " في قول الله عز وجل: (وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) ، مع إجماع أهل العلم أن مراد الله من ذلك في الصلوات المكتوبة أوضح الدلائل على أن المأموم إذا جهر إمامه في الصلاة أنه لا يقرأ معه بشيء، وأن يستمع له وينصت " فتح المالك بترتيب التمهيد لابن عبد البر على موطأ مالك ٢/١٢٦. وذكر ابن عبد البر في الإستذكار وفي التمهيد خبر أبي عياض عن أبي هريرة قال: (كانوا يتكلمون في الصلاة حتى نزلت هذه الآية (وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا)) . وقال إبراهيم بن مسلم: " فقلت لأبي عياض: لقد كنت أظن أن لا ينبغي لأحد يسمع القرآن ألا يسمع، قال: إنما ذلك في الصلاة المكتوبة، فأما في الصلاة غير المكتوبة فإن شئت سمعت وإن شئت مضيت ولم تسمع " الإستذكار ٤/٢٣٠. وقال ابن جرير الطبري بعد أن ساق أقوال العلماء في تأويل الآية السابقة: " وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال: أمروا باستماع القرآن في الصلاة إذا قرأ الإمام وكان من خلفه ممن يأتم به يسمعه في الخطبة، وإنا قلنا ذلك أولى بالصواب لصحة الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إذا قرأ الإمام فأنصتوا) وإجماع الجميع على أن من سمع خطبة الإمام ممن عليه الجمعة الإستماع والإنصات لها مع تتابع الأخبار بالأمر بذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنه لا وقت يجب على أحد استماع القرآن والإنصات لسماعه من قارئه إلا في هاتين الحالتين على اختلاف في إحداهما وهي حالة أن يكون خلف إمام مؤتم به، وقد صح الخبر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بما ذكر من قوله: (إذا قرأ الإمام فأنصتوا) ، فالإنصات خلفه لقراءته واجب على من كان مؤتماً سامعاً قراءته بعموم ظاهر القرآن والخبر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " تفسير الطبري ٦/١٦٦. وروى الطبري بإسناده عن سعيد بن جبير أن الآية (وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا) قال: "الإنصات يوم الأضحى ويوم الفطر ويوم الجمعة وفيما يجهر به الإمام في الصلاة" تفسير الطبري ٦/١٦٥. وعلق القرطبي على قول سعيد بن جبير بعد أن نقله بقوله: " وهو الصحيح لأنه يجمع ما أوجبته هذه الآية وغيرها من السنة في الإنصات " تفسير القرطبي ٧/٣٥٣ - ٣٥٤. ثم نقل القرطبي عن النقاش قوله: " أجمع أهل التفسير أن هذا الإستماع في الصلاة المكتوبة وغير المكتوبة ". وحكى ابن المنذر الإجماع على عدم وجوب الاستماع والإنصات في غير الصلاة والخطبة وذلك أن إيجابهما على كل من يسمع أحداً يقرأ فيه حرج عظيم لأنه يقتضي أن يترك له المشتغل بالعلم علمه والمشتغل بالحكم حكمه، والمتبايعان مساومتهما وتعاقدهما وكل ذي شغلٍ شغله " تفسير المنار ٩/٥٥٢ - ٥٥٣. وقال العز بن عبد السلام: " الاستماع للقرآن والتفهم لمعانيه من الآداب المشروعة المحثوث عليها، والاشتغال عن ذلك بالتحدث بما لا يكون أفضل من الاستماع سوء أدب على الشرع " فتاوى العز بن عبد السلام ص٤٨٥ - ٤٨٦. وقال جلال الدين السيوطي: " يسن الاستماع لقراءة القرآن، وترك اللغط والحديث بحضور القراءة، قال تعالى: (وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) " الإتقان ١/١٤٥. ومما يدل على أن الاستماع لقراءة القرآن خارج الصلاة والخطبة مندوب ما ورد من الأدلة في جواز الكلام خارج الصلاة والخطبة. ومما ينبغي التنبيه عليه، أن ترك الاستماع والإنصات للقرآن والاشتغال بالأحاديث المختلفة مكروه كراهة شديدة، وتكون الكراهة أشد إذا كان المتحدثون بأمور الدنيا قرب قارئ القرآن، وأما إذا كان المجلس فيه كثير من الناس يستمعون وينصتون فتنحى بعضهم وتحدثوا بصوت منخفض من غير تشويش على الآخرين فالخطب هين ويسير. ولا يعني قولنا إن الاستماع لقارئ القرآن في المسجد أو في الإذاعة أو من المسجل مندوب أن يتساهل الناس في الاستماع لكلام الله، فينبغي لكل مسلم أن يحرص على الاستماع والإنصات لقراءة القرآن وأن يتأدب في مجلس قراءة القرآن. كما وينبغي التنبيه أن بعض القراء يسيئون في قرائتهم للقرآن الكريم، ويشوشون على عباد الله، كالقراء الذين يقرأون في المآتم عبر مكبرات الصوت، فإن ذلك حرام شرعاً، وكذلك القراء الذين يقرأون عبر مكبرات الصوت قبل صلاة الجمعة وقبل الأذان للصلوات الخمس، فكل ذلك من البدع المخالفة للشرع لأن هؤلاء وأولئك يشوشون على عباد الله، وخاصة يوم الجمعة، فإن الوقت قبل صلاة الجمعة هو وقت للتنفل وللدعاء وللذكر والاستغفار، ولا ينبغي لأحد أن يشوش على عباد الله في قراءة القرآن ولا بالدروس ولا بالمواعظ، وإنما كل مسلم يقرأ إن رغب أو يصلي أو يدعو أو يستغفر لوحده. وقد ورد في الحديث أن النبي- صلى الله عليه وسلم - قال: (إن المصلي يناجي ربه فلينظر بما يناجيه ولا يجهر بعضكم على بعض بالقرآن) رواه الإمام مالك، وقال الشيخ الألباني: سنده صحيح. *****

<<  <  ج: ص:  >  >>