للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[١٧٨ - الميل الشرعي]

يقول السائل: هل الميل المذكور في كتب الفقه هو الميل المعروف الآن والمستخدم في قياس المسافات والمعروف باللغة الإنجليزية Mile؟

الجواب: ورد استعمال كلمة الميل في السنة النبوية في عدد كثير من الأحاديث منها: ما ورد في حديث المقداد بن الأسود في صفة يوم القيامة قال سمعت رسول الله ? يقول: (تدنى الشمس يوم القيامة من الخلق حتى تكون منهم كمقدار ميل) رواه مسلم. قال سليم - أحد رواة الحديث -: [فوالله ما أدري ما يعني بالميل أمسافة الأرض أم الميل الذي تكتحل به العين) . وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: (أجرى النبي صلى الله عليه وسلم ما ضمر من الخيل من الحقباء إلى ثنية الوداع وأجرى ما لم يضمر من الثنية إلى مسجد بني زريق، قال ابن عمر: وكنت فيمن أجرى. قال عبد الله: حدثنا سفيان قال: حدثني عبد الله، قال سفيان بين الحقباء إلى ثنية الوداع خمسة أميال أو ستة وبين ثنية إلى مسجد بني زريق ميل) رواه البخاري. عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ألا هل عسى أحدكم أن يتخذ الصبة من الغنم على رأس ميل أو ميلين فيتعذر عليه الكلأ فيرتفع ثم تجيء الجمعة فلا يجيء ولا يشهدها وتجيء الجمعة فلا يشهدها وتجيء الجمعة فلا يشهدها حتى يطبع الله على قلبه) رواه ابن ماجة والحاكم وصححه وقال الألباني: حسن، صحيح سنن ابن ماجة ١/١٨٦. وغير ذلك من الأحاديث. وقد استعملت لفظة الميل في كتب الفقهاء أيضاً وعادة ما يذكرونها عند حديثهم عن مسافة القصر في الصلاة. فقد قال الإمام الشافعي: [وإذا سافر الرجل سفراً يكون ستة وأربعين ميلاً بالهاشمي فله أن يقصر الصلاة سافر رسول الله صلى الله عليه وسلم أميالاً فقصر الصلاة، وقال ابن عباس: اقصر إلى جدة وإلى الطائف وإلى عسفان، قال الشافعي: وأقرب ذلك إلى مكة ستة وأربعون ميلاً بالهاشمي] الحاوي الكبير ٣/٣٥٨. وقال القرافي عند حديثه عن مسافة السفر: [وهو في الكتاب سفر ثمانية وأربعين ميلاً: أربعة برد كل بريد أربعة فراسخ وكل فرسخ ثلاثة أميال وقيل: أربعة وعشرون فرسخاً وروي عن مالك خمسة وأربعون ميلاً وقال ابن حبيب أربعون ميلاً وروي عن ابن القاسم من صلى في ستة وثلاثين ميلاً لا يعيد، وقال ابن عبد الحكم يعيد في الوقت، وفي الجواهر: وروي عن مالك اثنان وأربعون ميلاً لنا ما في البخاري: كان ابن عباس وابن عمر يقصران ويفطران في أربعة برد. ويروى عنه عليه السلام: لا تقصروا في أدنى من أربعة برد من مكة إلى عسفان ... والميل يشبه أن يكون من الميل بفتح الميم لأن البصر يمل فيه على وجه الأرض حتى يفنى إدراكه وفيه سبعة مذاهب: قال صاحب التنبيهات هو عشرة غلى والغلوة طلق الفرس وهو مائتا ذراع فيكون الميل ألفي ذراع قاله ابن حبيب وقال ابن عبد البر أصح ما قيل فيه ثلاثة آلاف وخمسمائة ونقل صاحب البيان ثلاثة آلاف ذراع وقيل أربعة آلاف ذراع كل ذراع ستة وثلاثون أصبعاً كل إصبع ست شعيرات بطن أحدها إلى ظهر الأخرى كل شعيرة ست شعرات شعر البرذون وقيل أمد البصر قاله صاحب الصحاح، وقيل ألف خطوة بخطوة الجمل وقيل أن ينظر الشخص فلا يعلم أهو آت أم ذاهب رجل أو امرأة] الذخيرة ٢/ ٣٥٨-٣٥٩. وقال الشيخ ابن قدامة المقدسي: [قيل لأبي عبد الله في كم تقصر الصلاة؟ قال: في أربعة برد، قيل له: مسيرة يوم تام؟ قال: لا. أربعة برد: ستة عشر فرسخاً ومسيرة يومين. فمذهب أبي عبد الله: أن القصر لا يجوز في أقل من ستة عشر فرسخاً، والفرسخ: ثلاثة أميال، فيكون ثمانية وأربعين ميلاً. قال القاضي: والميل اثنا عشر ألف قدم وذلك مسيرة يومين قاصدين، وقد قدّره ابن عباس فقال: من عسفان إلى مكة والطائف ومن مكة إلى الطائف ومن جدة إلى مكة، وذكر صاحب المسالك: أن من دمشق إلى القطيفة أربعة وعشرين ميلاً ومن دمشق إلى الكسوة اثنا عشر ميلاً وممن الكسوة إلى حاسم أربعة وعشرين ميلاً فعلى هذا تكون مسافة القصر يومين قاصدين. وهذا قول ابن عباس وابن عمر وإليه ذهب مالك والليث الشافعي وإسحاق] المغني ٢/١٨٨. وكذلك تحدث اللغوييون في كتبهم عن الميل فقال ابن منظور: [والميل من الأرض قدر منتهى مد البصر ... وقيل للأعلام المبنية في طريق مكة أميال لأنها بنيت على مقادير مدى البصر من الميل إلى الميل وكل ثلاثة أميال منها فرسخ] لسان العرب ١٣/٢٦٣. وجاء في المصباح المنير، ٢/٥٨٨: [والميل بالكسر عند العرب مقدار مدى البصر من الأرض قاله الأزهري وعند القدماء من أهل الهيئة ثلاثة آلاف ذراع وعند المحدثين أربعة آلاف ذراع والخلاف لفظي لأنهم اتفقوا على أن مقداره ست وتسعون ألف إصبع والإصبع ست شعيرات بطن كل واحدة إلى الأخرى ولكن القدماء يقولون الذراع اثنتان وثلاثون إصبعاً والمحدثون يقولون أربع وعشرون إصبعاً فإذا قسم الميل على رأي القدماء كل ذراع اثنين وثلاثين كان المتحصل ثلاثة آلاف ذراع وإن قسم على رأي المحدثين أربعاً وعشرين كان المتحصل أربعة آلاف ذراع (والفرسخ) عند الكل ثلاثة أميال وإذا قدر (الميل) بالغلوات وكانت كل غلوة أربعمائة ذراع كان ثلاثين غلوة وإن كان كل غلوة مائتي ذراع كان ستين غلوة ويقال للأعلام المبينة في طريق مكة أميال لأنها بنيت على مقادير مدى البصر من الميل إلى الميل وإنما أضيف إلى بني هاشم فقيل (الميل الهاشمي) لأن بني هاشم حددوه وأعلموه] . وقال ابن الرفعة: [وأما الذراع فلم أظفر به مبيناً في كلام أصحابنا إلا في مسافة القصر إذ قالوا هي أربعة برد وكل بريد على المشهور أربعة فراسخ والفرسخ ثلاثة أميال بالهاشمي ومجموع ذلك ثمانية وأربعون ميلاً. والميل الهاشمي منسوب إلى هاشم بن عبد مناف بن قصي جد رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه الذي قدر أميال البادية وبردها وهو بالخطا أربعة آلاف خطوة كل خطوة ثلاثة أقدام فالميل إذن اثنا عشر ألف قدم وهو بالأذرع ستة آلاف ذراع كل ذراع أربع وعشرون إصبعاً معترضات معتدلات والإصبع ست شعرات معتدلات معترضات وزاد بعضهم: وعرض كل شعيرة سبع شعرات أو ست شعرات من شعر البغل لأنها متناسبة] الإيضاح والبيان في معرفة المكيال والميزان ص ٧٧-٧٩ وقد اختلف الفقهاء في تحديد الميل فذهب الحنفية إلى أنه أربعة آلاف ذراع وللمالكية قولان: ذهب ابن عبد البر إلى أنه ثلاثة آلاف ذراع وخمسمائة ذراع وقال ابن حبيب: والميل ألف باع والباع ذراعان فيكون الميل ألفي ذراع، قال الدسوقي: والمشهور أن الميل ألفا ذراع والصحيح أنه ثلاثة آلاف ذراع وخمسمئة. وقال الشافعية: الميل أربعة آلاف خطوة. قال الحنابلة: الميل الهاشمي ستة آلاف ذراع بذراع اليد وهي اثنا عشر ألف قدم] الموسوعة الفقهية ٣٨/٣٢٥. وقد ذكر بعض المعاصرين تقدير الميل بالأقيسة المعروفة الآن فذكر أن الميل يعادل ألف باع والباع أربعة اذرع شرعية فتكون مسافته ٤×١٠٠٠×٤٦. ٢ = ١٨٤٨ متراً. إذا ثبت هذا فإن الميل وهو وحدة قياس أوروبية أو أمريكية ويساوي (١٦٠٩ متراً عندهم) من الممكن أن تكون مأخوذة من الميل المستخدمة عند الفقهاء. ولكن مما يؤسف له أن المسلمين اليوم قد تخلوا عن استعمال وحدات المقاييس والموازيين والمكاييل الإسلامية وتحولوا إلى استخدام أنظمة المعايير الغربية: [مع أن العمل بوحدات التعامل الإسلامية ظل جارياً في المجتمعات الإسلامية على المستويات الشعبية والرسمية مدة تزيد على ثلاثة عشر قرناً ونيف إلى أن تم إلغاء التعامل بها قصراً وبصورة تدريجية منذ بداية النصف الأول من هذا القرن مما أدى إلى طمس سريع وعجيب لمعالم هذه الوحدات حتى غدت أثراً بعد عين وتناستها الأوساط الرسمية والشعبية الإسلامية بعد أن كانت مشخصة المعالم معروفة المقادير والأعيان يعرفها العام والخاص من المدن والأرياف معرفة الأب لأبنائه وإن كثروا ولم يبق منها مشخصاً ومعروفاً إلا الوحدات التي حفظتها الشريعة الإسلامية ولا يستخدم الناس منها سوى ما له صلة بأمور العبادات كمقادير الزكاة وصدقة الفطر ومسافة القصر في الصلاة ورخصة الصائم وحتى هذه أصبحت الحاجة ماسة إلى مقارنتها بوحدات النظم العرفية السائدة اليوم وقد كان هذا نتيجة لتسلط الدول الاستعمارية عسكرياً وسياسياً واقتصادياً على الأمة الإسلامي التي توزعت أوطانها بين هذه الدول بعد أن تم القضاء على دولة الخلافة الإسلامية ... ورافق هذا كله تسرب وحدات نظم الغرب والشرق إلى داخل الأسواق الإسلامية وذلك بقصد إحداث ازدواجية في وحدات نظم التعامل وفعلاً تم هذا ولم يمض وقت طويل حتى تفوقت الوحدات الاستعمارية على الوحدات الإسلامية ثم حلت محلها من التعامل على جميع المستويات وكان ذلك مدعوماً بقوة القوانين الاستعمارية وهكذا أصبحت الوحدات الفرنسية هي الرسمية في الأقطار التي نكبت بالاستعمار الفرنسي وصار الحال كذلك في الأقطار التي نكبت باستعمار بريطانيا أو البرتغال أو إسبانيا أو إيطاليا أو هولندا غير أن وحدات نظم التعامل الفرنسية كانت لها الغلبة في معظم أجزاء العالم الإسلامي واليوم وقد غدت وحدات نظم التعامل الإسلامية رموزاً لمصطلحات لا وجود لها إلا في التراث الإسلامي كالتي يرد ذكرها متفرقاً بين الكثير من مؤلفات الفقه والتفسير والحديث النبوي الشريف وتاريخ الحضارة العام ... الخ] مقدمة محقق الإيضاح والبيان في معرفة المكيال والميزان لابن الرفعة ص ٦-٧.

<<  <  ج: ص:  >  >>