للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[١٣ - التألي على الله سبحانه وتعالى]

يقول السائل: توفي شخص في بلدتنا وكان عاصياً فقال رجل: إلى جهنم وبئس المصير، فما حكم ذلك، أفيدونا؟

الجواب: إن من أعظم الآفات التي يقع فيها الإنسان آفة انفلات اللسان فيتكلم بكلمة لا يلقي لها بالاً فتهوي به في النار كما ورد في الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن العبد ليتكلم بالكلمة من رضوان الله لا يلقي لها بالاً يرفع الله بها درجات وإن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يلقي لها بالاً يهوي بها في جهنم) رواه البخاري ومسلم. وفي رواية أخرى عند البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن العبد ليتكلم بالكلمة ما يتبين فيها يزل بها في النار أبعد مما بين المشرق والمغرب) .

وعن بلال بن الحارث المزني رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن أحدكم ليتكلم بالكلمة من رضوان الله ما يظن أن تبلغ ما بلغت فيكتب الله له بها رضوانه إلى يوم يلقاه وإن أحدكم ليتكلم بالكلمة من سخط الله ما يظن أن تبلغ ما بلغت فيكتب الله عليه بها سخطه إلى يوم يلقاه) رواه الترمذي وقال: حسن صحيح.

ويجب على الإنسان أن يدرك أن كل كلمة تخرج من فمه فإنه محاسب عليها، فهي إما له وإما عليه يقول الله تعالى: (مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ) سورة ق الآية ١٨. وجاء في الحديث عن أم حبيبة زوج النبي صلى الله عليه وسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (كل كلام ابن آدم عليه لا له إلا أمر بمعروف أو نهي عن منكر أو ذكر الله) رواه الترمذي وقال: حديث حسن. ووردت أحاديث كثيرة تحث على حفظ المنطق منها: عن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال قلت يا رسول الله ما النجاة؟ قال أمسك عليك لسانك وليسعك بيتك وابك على خطيئتك) رواه الترمذي وقال: حديث حسن.

وعن سهل بن سعد رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من يضمن لي ما بين لحييه وما بين رجليه تضمنت له بالجنة) رواه البخاري، وما بين لحييه أي اللسان وما بين رجليه أي فرجه. وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت) رواه البخاري ومسلم. وغير ذلك كثير. إذا تقرر هذا فأعود لما ورد في السؤال فأقول إن ما قاله الرجل في حق الميت [إلى جهنم وبئس المصير] هو من التألي على الله عز وج، وهو من سوء الأدب مع الله سبحانه وتعالى، لأن الله يقول: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ) سورة النساء الآية ٤٨، ففي هذه الآية الكريمة يبين الله عز وجل أنه يغفر ما دون الشرك بمشيئته وإرادته، وقد ذكر الحافظ ابن كثير عند تفسيره لهذه الآية طائفة من الأحاديث التي توضح أن من مات لا يشرك بالله شيئاً فإنه داخل تحت المشيئة منها: عن أبي الأسود الديلي أن أبا ذر حدثه قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (ما من عبدٍ قال: لا إله إلا الله ثم مات على ذلك, إلا دخل الجنة, قلت: وإن زنى وإن سرق؟ قال: وإن زنى وإن سرق. قلت: وإن زنى وإن سرق؟ قال وإن زنى وإن سرق ثلاثاً, ثم قال في الرابعة: على رغم أنف أبي ذر، قال: فخرج أبو ذر وهو يجر إزاره وهو يقول: وإن رغم أنف أبي ذر, وكان أبو ذر يحدث بهذا ويقول: وإن رغم أنف أبي ذر.) والحديث في الصحيحين.

ومنها عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (لا تزال المغفرة على العبد ما لم يقع الحجاب» قيل: يا نبي الله وما الحجاب؟ قال «الإشراك بالله ـ قال ـ ما من نفس تلقى الله لا تشرك به شيئاً إلا حلت لها المغفرة من الله تعالى, إن يشاء أن يعذبها وإن يشاء أن يغفر لها» ثم قرأ نبي الله {إن الله لا يغفر أن يشرك به, ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} . رواه الحافظ أبو يعلى في مسنده. تفسير ابن كثير ٢/٢٩٥-٢٩٧. وقال الله تعالى {يُعَذّبُ مَن يَشَآءُ وَيَرْحَمُ مَن يَشَآءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ} سورة العنكبوت الآية ٢١، قال الحافظ ابن كثير: [وقوله تعالى: {يعذب من يشاء ويرحم من يشاء} أي هو الحاكم المتصرف الذي يفعل ما يشاء, ويحكم ما يريد, لا معقب لحكمه, ولا يسأل عما يفعل وهم يسألون, فله الخلق والأمر مهما فعل فعدل, لأنه المالك الذي لا يظلم مثقال ذرة, كما جاء في الحديث الذي رواه أهل السنن «إن الله لو عذب أهل سماواته وأهل أرضه لعذبهم وهو غير ظالم لهم» ولهذا قال تعالى: {يعذب من يشاء ويرحم من يشاء وإليه تقلبون} أي ترجعون يوم القيامة] تفسير ابن كثير ٥/٤٩. وقال الله تعالى (أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) المائدةالآية٤٠. وقال تعالى: (وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) آل عمرانالآية ١٢٩. وقال تعالى: (وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا) الفتح الآية١٤. فمن مات لا يشرك بالله شيئاً فهو داخل تحت المشيئة إن شاء الله غفر له وإن شاء عذبه، ولا يجوز لأحد أن يتألى على الله فيحكم بأن فلاناً من أهل النار أو أن فلاناً من أهل الجنة فقد ثبت في الحديث عن جندب بن عبد الله البجلي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حدث أن رجلاً قال: والله لا يغفر الله لفلان، وإن الله تعالى قال من ذا الذي يتألى علي أن لا أغفر لفلان، فإني قد غفرت لفلان وأحبطت عملك أو كما قال) رواه مسلم.

قال الإمام النووي [معنى (يتألى) يحلف، والألية اليمين. وفيه دلالة لمذهب أهل السنة في غفران الذنوب بلا توبة إذا شاء الله غفرانها.] شرح النووي على صحيح مسلم ٦/١٣٣.

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: كان رجلان في بني إسرائيل متواخيين، فكان أحدهما يذنب والآخر مجتهد في العبادة، فكان لا يزال المجتهد يرى الآخر على الذنب فيقول أقصر فوجده يوماً على ذنب فقال له أقصر فقال خلني وربي أبعثت عليَّ رقيباً، فقال والله لا يغفر الله لك أو لا يدخلك الله الجنة، فقبض أرواحهما فاجتمعا عند رب العالمين، فقال لهذا المجتهد أكنت بي عالماً أو كنت على ما في يدي قادراً، وقال للمذنب اذهب فادخل الجنة برحمتي، وقال للآخر اذهبوا به إلى النار، قال أبو هريرة والذي نفسي بيده لتكلم بكلمة أوبقت دنياه وآخرته) رواه أحمد وأبو داود وصححه العلامة الألباني في صحيح الجامع الصغير برقم ٤٤٥٥. [وقوله (متواخيين) أى متقابلين في القصد والسعي فهذا كان قاصداً وساعياً في الخير وهذا كان قاصداً وساعياً في الشر، (أقصر) : من الإقصار وهو الكف عن الشيء مع القدرة عليه] عون المعبود شرح سنن أبي داود ١٣/١٦٦-١٦٧.

وروي في الحديث عن عبد الله عن بن مسعود رضي الله عنه قال: (كان رجل يصلي، فلما سجد أتاه رجل فوطئ على رقبته، فقال الذي تحته: والله لا يغفر لك الله أبداً، فقال الله عز وجل: تألى عبدي أن لا أغفر لعبدي، فإني قد غفرت له) رواه الطبراني في المعجم الكبير والبيهقي في شعب الإيمان. قال الحافظ المناوي: [قال المظهر: لا يجوز لأحد أن يجزم بالغفران أو العقاب؛ لأن أحداً لا يعلم مشيئة الله وإرادته في عباده بل يرجو للمطيع ويخاف للعاصي. وإنما يجزم في حق من جاء فيه نصٌ كالعشرة المبشرة] فيض القدير شرح الجامع الصغير ٦/٤٩٩.

وخلاصة الأمر أنه لا يجوز لأحد أن يجزم لشخص بأنه من أهل الجنة أو أنه من أهل النار لأن ذلك من سوء الأدب مع الله عز وجل. ويجب على من قال ذلك أن يتوب إلى الله عز وجل توبة نصوحاً.

<<  <  ج: ص:  >  >>