للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[٥ - علم القراءات يؤخذ بالسماع والمشافهة من أهل الشأن]

يقول السائل: في مسجدنا شخص يدِّرس القراءات للناس مع العلم أنه لم يقرأ علم القراءات على العلماء ويزعم أنه أخذه من الكتب فما قولكم في ذلك، أفيدونا؟

الجواب: علم القراءات كما عَّرفه ابن الجزري بقوله: [القراءات علم بكيفية أداء كلمات القرآن واختلافها بعزو الناقلة] منجد المقرئين ومرشد الطالبين ص ٢، وأما المقرئ: فهو العالم بالقراءات، التي رواها مشافهة بالتلقي عن أهلها إلى أن يبلغ النبي صلى الله عليه وسلم. وذكر ابن الجزري لو أن شخصاً حفظ كتاب التسهيل – وهو كتاب مشهور في القراءات لأبي عمرو الداني وهو الذي نظمه الشاطبي في قصيدته المشهورة المسماة الشاطبية – فليس له أن يقرئ بما فيه إن لم يشافهه من شوفه به مسلسلاً، لأن في القراءات أشياء لا تحكم إلا بالسماع والمشافهة. منجد المقرئين ومرشد الطالبين ص ٣. وانظر إتقان البرهان ٢/١٣٨-١٣٩.

وقد قرر علماء القراءات أن الأصل في علم القراءات هو التلقي من أفواه المشايخ والقراء ولا يؤخذ هذا العلم من الكتب بل بالسماع، ويدل على هذا الأصل أن النبي صلى الله عليه وسلم تلقى القرآن الكريم من جبريل عليه السلام كما قال سبحانه وتعالى {وإنّك لتلقّى القرءان من لدن حكيم عليم} سورة النمل الآية ٦، وقد تلقى الصحابة رضوان الله عليهم – خاصة القراء منهم - القرآن من رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقد أرشد النبي صلى الله عليه وسلم الأمة أن يأخذوا القرآن عن أربعة من أصحابه المتقنين للقراءة فقد روى الإمام البخاري بإسناده عن مسروق: ذكر عبد الله بن عمرو، عبد الله بن مسعود فقال: لا أزال أحبه سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (خذوا القرآن من أربعة: من عبد الله بن مسعود، وسالم، ومعاذ، وأُبي بن كعب) . ويدل هذا الحديث على أن قراءة القرآن تؤخذ بالتلقي من أفواه القراء المتقنين، فالقرآن الكريم لا يؤخذ من كل من هب ودب، لأن في علم القراءات وجوهاً لا يحكمها إلا التلقي والمشافهة من القراء المتقنين، وما قرره العلماء في علم القراءات من وجوب التلقي من القراء والمشافهة من أفواه المشايخ هو ذاته ما قرروه في علم التجويد فهو أيضاً يؤخذ بالمشافهة والسماع من أهله المتقنين له. وتأكيداً لهذا المعنى يقول عبد الله بن مسعو رضي الله عنه: (والله لقد أخذت من فيِّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بضعاً وسبعين سورة) رواه البخاري. وذكر الشيخ محمد عبد العظيم الزرقاني أن عثمان بن عفان رضي الله عنه حينما بعث المصاحف إلى الآفاق، أرسل قارئاً مع كل مصحف يوافق قراءته في الأكثر الأغلب، انظر مناهل العرفان في علوم القرآن ١/٣٧٢-٣٧٣. وقد اشتهر عن علماء السلف أنهم قالوا: [القراءة سنةٌ متبعةٌ يأخذها الآخر عن الأول] . وقال الإمام ابن الجزري: [ولا شك أن الأمة كما هم متعبدون بفهم معاني القرآن وإقامة حدوده متعبدون بتصحيح ألفاظه وإقامة حروفه على الصفة المتلقاة من أئمة القراءة المتصلة بالحضرة النبوية الأفصحية العربية التي لا تجوز مخالفتها ولا العدول عنها إلى غيرها. والناس في ذلك بين محسن مأجور، ومسيء آثم، أو معذور، فمن قدر على تصحيح كلام الله تعالى باللفظ الصحيح، العربي الفصيح، وعدل إلى اللفظ الفاسد العجمي أو النبطي القبيح، استغناءً بنفسه، واستبداداً برأيه وحدسه واتكالاً على ما ألف من حفظه. واستكباراً عن الرجوع إلى عالم يوقفه على صحيح لفظه. فإنه مقصر بلا شك، وآثم بلا ريب، وغاش بلا مرية، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الدين النصيحة: لله، ولكتابه، ولرسوله، ولأئمة المسلمين وعامتهم) أما من كان لا يطاوعه لسانه؛ أو لا يجد من يهديه إلى الصواب بيانه فإن الله لا يكلف نفساً إلا وسعها] النشر في القراءات العشر ١/٢٣٧.

وقال الشيخ جلال الدين السيوطي: [والأمة كما هم متعبدون بفهم معاني القرآن وأحكامه متعبدون بتصحيح ألفاظه وإقامة حروفه على الصفة المتلقاة من الأئمة القراء المتصل سندهم بالنبي صلى الله عليه وسلم] الإتقان في علوم القرآن ١/٣٢٤.

وقال الخطيب البغدادي: [الذي لا يأخذ العلم من أفواه العلماء لا يُسمى عالماً، ولا يُسمى الذي يقرأ من المصحف من غير سماع من القارئ قارئاً، إنما يسمى مصحفياً] . وقال الشيخ الدمياطي في تعريفه المقرئ: [من علم بها أداءً ورواها مشافهةً فلو حفظ كتاباً امتنع عليه إقراؤه بما فيه إن لم يشافهه من شوفه به مسلسلاً لأن في القراءات أشياء لا تحكم إلا بالسماع والمشافهة، بل لم يكتفوا بالسماع من لفظ الشيخ فقط في التحمل وإن اكتفوا به في الحديث، قالوا لأن المقصود هنا كيفية الأداء، وليس من سمع من لفظ الشيخ يقدر على الأداء أي فلا بد من قراءة الطالب على الشيخ بخلاف الحديث، فإن المقصود منه المعنى أو اللفظ، لا بالهيئات المعتبرة في أداء القرآن، أما الصحابة فكانت طباعهم السليمة وفصاحتهم تقتضي قدرتهم على الأداء كما سمعوه منه صلي الله عليه وسلم لأنه نزل بلغتهم] إتحاف فضلاء البشر بالقراءات الأربعة عشر ص ٦٨.

وقال الشيخ محمود خليل الحصري – شيخ القراء المصريين -: [ومما يجب التنبه له أن التجويد العملي لا يمكن أن يؤخذ من المصحف مهما بلغ من الضبط والإجادة، ولا يمكن أن يُتعلم من الكتب مهما بلغت من البيان والإيضاح، وإنما طريقه التلقي، والمشافهة، والتيقن، والسماع، والأخذ من أفواه الشيوخ المهرة المتقنين لألفاظ القرآن، المحكمين لأدائه، الضابطين لحروفه وكلماته لأن من الأحكام القرآنية ما لا يحكمه إلا المشافهة، والتوقيف، ولا يضبطه إلا السماع والتلقين، ولا يجيده إلا الأخذ من أفواه العارفين] أحكام قراءة القرآن ص ١٨.

وقال الشيخ محمد علي خلف الحسيني شيخ القراء بالديار المصرية سابقاً: [وإذ قد علمت أن التجويد واجب وعرفت حقيقته علمت أن معرفة الأداء والنطق بالقرآن على الصفة التي نزل بها متوقفة على التلقي والأخذ بالسماع من أفواه المشايخ الآخذين لها كذلك المتصل سندهم بالحضرة النبوية لأن القارئ لا يمكنه معرفة كيفية الإدغام والإخفاء والتفخيم والترقيق والإمالة المحضة أو المتوسطة والتحقيق والتسهيل والروم والإشمام ونحوها إلا بالسماع والإسماع، حتى يمكنه أن يحترز عن اللحن والخطأ وتقع القراءة على الصفة المعتبرة شرعاً، إذا علمت ذلك تبين لك أن التلقي المذكور واجب لأن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب كما هو معلوم ولأن صحة السند عن النبي صلى الله عليه وسلم عن روح القدس عن الله عز وجل بالصفة المتواترة أمر ضروري للكتاب العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد، ليتحقق بذلك دوام ما وعد به تعالى في قوله جل ذكره {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} سورة الحجر الآية ٩، وحينئذ فأخذ القرآن من المصحف بدون موقف لا يكفي بل لا يجوز ولو كان المصحف مضبوطاً ... فالحاصل أنه لابد من التلقي من أفواه المشايخ الضابطين المتقنين على ما تقدم ولا يعتد بالأخذ من المصاحف بدون معلم أصلاً ولا قائل بذلك ومرتكبه لاحظ له في الدين لتركه الواجب وارتكابه المحرم هذا محصل ما كتبه في هذا الموضوع من فطاحل الأئمة من يوثق بقولهم، ومن جهابذة الأمة من يؤخذ برأيهم في المعقول يرجع إليهم وفي المنقول يعتمد عليهم وهم – ثم سماهم وهم أحد عشر عالماً من القراء - ... ولذا قيل: من يأخذ العلم عن شيخ مشافهة يكن عن الزيغ والتصحيف في حرم

ومن يكن آخذا للعلم من صحف فعلمه عند أهل العلم كالعدم] القول السديد في بيان حكم التجويد ص٩- ١٢.

وقد قال بعض السلف: [لا تأخذ القرآن من مُصحفي، ولا تأخذ الحديث من صُحُفي] شرح ما يقع فيه التصحيف والتحريف لأبي أحمد العسكري ص١٠. فالمصحفي هو الذي يقرأ القرآن من المصحف ولم يتتلمذ على أيدي القراء، والصحفي من أخذ العلم عن الكتب والصحف لا عن العلماء. وقال أبو حيان النحوي المشهور: يظن الغمر أن الكتب تهدي أخا فهم لإدراك العلوم

وما يدري الجهول بأن فيها غوامض حيرت عقل الفهيم

إذا رمت العلوم بغير شيخ ضللت عن الصراط المستقيم

وتلتبس الأمور عليك حتى تصير أضل من توما الحكيم

وخلاصة الأمر أن علم القراءات وكذا علم التجويد لا يؤخذ من الكتب والمصاحف بل لا بد من التلقي من العلماء والقراء المتقنين، ولا يظنن أحد أنه لو حفظ متناً من متون القراءات كالشاطبية أنه قادر على تدريس هذا العلم، أنى له ذلك ما لم يتلقاه بالسماع والمشافهة، وعلى من أراد دراسة علم القراءات والتجويد أن يأخذه من أهل هذا الشأن وليس من أدعياءه وهم في زماننا كثر، وأنصح السائل وغيره أن لا يسمع لأدعياء العلم هؤلاء.

<<  <  ج: ص:  >  >>