للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[٤٢ - آداب التعزية]

يقول السائل: ما هي آداب التعزية، حيث إننا نلاحظ مخالفات كثيرة تحدث عند اجتماع الناس للتعزية، حيث يكثر الكلام في شؤون الدنيا وما يتبعه من لهوٍ وضحكٍ وتدخينٍ مع وجود مسجل لقراءة القرآن الكريم، وما حكم صنع أهل الميت للطعام في اليوم الثالث من الوفاة، أفيدونا؟

الجواب: التعزية من السنة وهي مستحبة عند أهل العلم فقد ورد في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما من مؤمن يعزي أخاه بمصيبة إلا كساه الله عز وجل من حلل الكرامة يوم القيامة) رواه ابن ماجة والبيهقي بإسنادٍ حسن كما قال الإمام النووي في الأذكار ص ١٢٦. وعن أم سلمة رضي الله عنها قالت: (دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على أبي سلمة وقد شق بصره فأغمضه، ثم قال إن الروح إذا قبض تبعه البصر، فضج ناسٌ من أهله، فقال لا تدعوا على أنفسكم إلا بخير فإن الملائكة يؤمنون على ما تقولون، ثم قال اللهم اغفر لأبي سلمة وارفع درجته في المهديين، واخلفه في عقبه في الغابرين، واغفر لنا وله يا رب العالمين وافسح له في قبره ونور له فيه) رواه مسلم. وروى الإمام أحمد في المسند عن عبد الله بن جعفر في قصة استشهاد جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه وفيها: (فقال اللهم اخلف جعفراً في أهله وبارك لعبد الله في صفقة يمينه، قالها ثلاث مرار) قال العلامة الألباني: وإسناده صحيح على شرط مسلم، أحكام الجنائز ص ١٦٦. وعن بريدة الأسلمي رضي الله عنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتعهد الأنصار، ويعودهم، ويسأل عنهم، فبلغه عن امرأة من الأنصار مات ابنها وليس لها غيره، وأنها جزعت عليه جزعاً شديداً، فأتاها النبي صلى الله عليه وسلم ومعه أصحابه، فلما بلغ باب المرأة، قيل للمرأة: إن نبي الله يريد أن يدخل، يعزيها، فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أما إنه بلغني أنك جزعت على ابنك، فأمرها بتقوى الله وبالصبر، فقالت: يا رسول الله مالي لا أجزع وإني امرأة رقوب لا ألد، ولم يكن لي غيره؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الرقوب: الذي يبقى ولدها، ثم قال: ما من امرئ أو امرأة مسلمة يموت لها ثلاثة أولاد يحتسبهم إلا أدخله الله بهم الجنة، فقال عمر وهو عن يمين النبي صلى الله عليه وسلم: بأبي أنت وأمي واثنين؟ قال: واثنين.) قال العلامة الألباني [رواه الحاكم وقال صحيح الإسناد ووافقه الذهبي، قلت - الألباني - بل هو على شرط مسلم فإن رجاله كلهم رجال صحيحه، لكن أحدهم فيه ضعف من قبل حفظه لكن لا ينزل حديثه هذا عن رتبة الحسن والحديث أورده الهيثمي في المجمع ... وقال رواه البزار ورجاله رجال الصحيح] أحكام الجنائز ص ١٦٥. ولا بأس في اجتماع الناس للتعزية في قاعة ملحقة بالمسجد أو في البيت أو اصطفاف أهل الميت عند المقبرة بعد الدفن ليعزيهم الناس، فكل ذلك من الوسائل التي تعين على فعل السنة، ومن المقرر عند العلماء أن للوسائل أحكام المقاصد، قال الإمام الشافعي: [والتعزية من حين موت الميت، إن المنزل والمسجد وطريق القبور، وبعد الدفن، ومتى عزَّى فحسن، فإذا شهد الجنازة أحببت أن تؤخر التعزية إلى أن يدفن الميت إلا أن يرى جزعاً من المصاب فيعزيه عند جزعه، ويعزي الصغير والكبير، والمرأة إلا أن تكون امرأة شابة ولا أحب مخاطبتها إلا لذي محرم، وأحب لجيران الميت أو ذي قرابته أن يعملوا لأهل الميت في يوم يموت، وليلته طعاماً يشبعهم فإن ذلك سنة، وذكرٌ كريمٌ، وهو من فعل أهل الخير قبلنا، وبعدنا لأنه لما (جاء نعي جعفر قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اجعلوا لآل جعفر طعاماً، فإنه قد جاءهم أمر يشغلهم) ] الأم ١/٣١٧. إذا تقرر هذا فإن من يدقق النظر في معنى التعزية كما قرره العلماء يجد أن المقصود من التعزية تسلية أهل الميت وحثهم على الصبر وعلى الرضا بما قدره الله لهم والدعاء للميت والترحم عليه، ولكن ما يفعله كثير من الناس خلاف ذلك، ومن المؤسف حقاً أنك ترى الناس يتصرفون على خلاف ذلك، فإن بيوت العزاء صارت أشبه بالمقاهي، فترى كثيراً من المعزين يتحدثون في شؤونهم الدنيوية ويتضاحكون ويدخنون ولا أثر لحادثة الموت عليهم إلا من رحم الله، وقد قرر أهل العلماء آداباً للمعزي ينبغي أن يتحلى بها منها: المسارعة في مواساة المصاب، وتصبيره. والذهاب للتعزية بسكينة ووقار، واختيار الألفاظ المناسبة في تعزيه أهل المصاب؛ ولو تقيد بما ورد لكان أحسن. وتذكير المصاب بفضيلة الصبر والرضا على ما قضاه الله تعالى وقدره، قال الإمام الشوكاني: [وثمرة التعزية الحث على الرجوع إلى الله تعالى ليحصل الأجر] نيل الأوطار٤/١١٦، وتعزية جميع أهل المصاب، ويتأكد لمن لا يقوى على تحمل المصيبة كالصبيان، والنساء، إلا إذا خشيت الفتنة فلا يُعزي النساءَ إلا محارمُهن. ولا بأس أن يجتمع بعض الناس ليذهبوا سوياً لتعزية أهل الميت، بل إنه أفضل للمعزي والمعزى، فإن هذا مما يعين المُعزِّي، ولا يتعب المُعزَّى، ويعين على أداء السنة، وداخل تحت قوله تعالى {وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} سورة المائدة الآية ٢. والتعزية في مدة العزاء التي تعارف الناس عليها، ولا يعزي بعدها لما يحصل من تجديد الحزن؛ إلا إذا كانت المصيبة باقية في نفس المصاب فلا بأس بتعزيته. انظر كتاب التعزية وأحكامها ص ٢٣٨-٢٣٩. فانظر إلى هذه الآداب وقارنها بما عليه حال كثير من المعزين تجد العجب العجاب، فإذا كان الناسُ لا يتعظون بالموت فما الذي يعظهم!!! وأما ما ذكره السائل من حديث الناس في شؤون الدنيا وتضاحكهم فهذا دليلٌ واضحٌ على عدم اتعاظهم بالموت، وكفى بالموت واعظاً. وأما التدخين فلا شك لدي في تحريمه، وقد رأيت بنفسي أن من أهل الميت يصطفون لتقبل العزاء من الناس وهم يدخنون!! وأما قراءة القرآن في بيوت العزاء فمن البدع النكرة. ويضاف إلى ذلك أن القرآن يتلى والناس لاهون ولا يستمعون!! وأما صنع الطعام من أهل الميت في اليوم الثالث فهو مخالف للهدي النبوي، فإن أهل الميت حلت بهم مصيبة الموت وهم مشغولون بتجهيز الميت ودفنه وتعمهم الأحزان فلا ينبغي أن يكلفوا بإعداد الطعام وتقديمه للناس، بل الواجب عكس ذلك، فعلى أقاربهم أو جيرانهم أو أهل بلدهم أن يكفوهم ذلك فيصنعوا الطعام لأهل الميت، ويدل على ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: (اصنعوا لآل جعفر طعاماً فقد أتاهم ما يشغلهم) رواه أبو داود والترمذي والحاكم والبيهقي وغيرهم وقال الحاكم صحيح الإسناد ووافقه الذهبي وحسنه الألباني. والحديث النبوي يرشد إلى نوع من التكافل الإجتماعي حيث إن إعداد الطعام لأهل الميت أمرٌ له أثرٌ طيبٌ في نفوسهم بالإضافة إلى تعزيتهم ومواساتهم وعلى المسلمين التمسك بسنة رسولهم صلى الله عليه وسلم لتحقيق هذه المعاني العظيمة. قال الإمام النووي: [قال صاحب"الشامل" وأما إصلاح أهل البيت طعاماً، وجمعهم الناس عليه، فلم ينقل فيه شيء، قال: وهو بدعة غير مستحبة، وهو كما قال] روضة الطالبين٢/١٤٥. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: [صنعة أهل الميت طعاماً يدعون الناس إليه، فهذا غير مشروع، وإنما هو بدعة] مجموع فتاوى شيخ الإسلام ٢٤/٣١٦. وقال العلامة ابن القيم: [وكان من هديه صلى الله عليه وسلم أن أهل الميت لا يتكلفون الطعام للناس، بل أمر أن يصنع الناس لهم الطعام يرسلونه إليهم، وهذا من أعظم مكارم الأخلاق والشيم، والحمل عن أهل الميت، فإنهم في شغل بمصابهم عن إطعام الناس] زاد المعاد في هدي خير العباد ١/٥٢٨. وقال العلامة الشيخ عبد العزيز بن باز: [وأما كون أهل الميت يصنعون طعاماً للناس من أجل الميت فهذا لا يجوز، وهو من عمل الجاهلية سواء كان ذلك يوم الموت أو في اليوم الرابع أو العاشر أو على رأس السنة، كل ذلك لا يجوز لما ثبت عن جرير بن عبد الله البجلي - أحد أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "كنا نعد الاجتماع إلى أهل الميت وصناعة الطعام بعد الدفن من النياحة " أما إن نزل بأهل الميت ضيوف زمن العزاء فلا بأس أن يصنعوا لهم الطعام من أجل الضيافة، كما أنه لا حرج على أهل الميت أن يدعوا من شاؤا من الجيران والأقارب ليتناولوا معهم ما أهدي لهم من الطعام] مجموع فتاوى الشيخ ٩/٣٢٥-٣٢٦.

وخلاصة الأمر أن التعزية من الأمور المستحبة وقد شرعت لمقاصد عظيمة، منها تسلية أهل الميت وحثهم على الصبر والرضا بقضاء الله وقدره، وإن الواجب على المعزي أن يستشعر حالة الموت وينبغي للمعزين أن يتأدبوا بآداب التعزية وأن يعلموا أنهم ما جاؤا لتعزية أهل الميت إلا لتحقيق مقاصد التعزية، وليس للحديث في شؤون الدنيا والتضاحك واللهو والتدخين وكأن بيت العزاء مقهى. فيا من جئت للعزاء استشعر عظمة الموت وتذكر أنك بانتظار دورك، فتأدب بأدب الإسلام وأكثر من الصمت واترك أمورك الدنيوية لدقائق قليلة.

<<  <  ج: ص:  >  >>