للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[٤ - تجب الزكاة في عروض التجارة على الصحيح من أقوال العلماء]

يقول السائل: إنه طالب علم وقد قرأ كلاماً للشيخ محمد ناصر الدين الألباني يرى فيه أن الزكاة غير واجبة في عروض التجارة، فهل هذا صحيح، أفيدونا؟ الجواب: لا بد أن نعرف أولاً أن الشيخ العلامة الألباني رحمة الله عليه، هو محدث هذا العصر والأوان بلا منازع، وهو من أهل العلم والفقه في الحديث، ولكنه يميل كثيراً في منهجه الفقهي إلى مذهب الظاهرية، والظاهرية يأخذون بظاهر النصوص ولا يعملون بالقياس، وغير ذلك مما خالفوا به جماهير الفقهاء. ومسألة الزكاة في عروض التجارة، الخلاف فيها قديمٌ جديد، وأكثر الفقهاء قديماً وحديثاً، على وجوب الزكاة في عروض التجارة، قال الإمام النووي: [وبه قال جماهير العلماء من الصحابة والتابعين والفقهاء بعدهم أجمعين، قال ابن المنذر أجمع عامة أهل العلم على وجوب زكاة التجارة، قال رويناه عن عمر بن الخطاب وبن عباس والفقهاء السبعة سعيد بن المسيب والقاسم بن محمد وعروة بن الزبير وأبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث وخارجة بن زيد وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة وسلمان بن يسار والحسن البصري وطاووس وجابر بن زيد وميمون بن مهران والنخعي ومالك والثوري والأوزاعي والشافعي والنعمان وأصحابه وأحمد واسحق وأبي ثور وأبي عبيد، وحكى أصحابنا عن داود وغيره من أهل الظاهر أنهم قالوا لا تجب] المجموع ٦/٤٧. واعتبر بعض أهل العلم القول بعدم وجوب الزكاة في عروض التجارة من الأقوال الشاذة التي لا يلتفت إليها ولا يعول عليها، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: [والأئمة الأربعة وسائر الأمة ـ إلا من شذ ـ متفقون على وجوبها في عرض التجارة، سواء كان التاجر مقيماً أو مسافراً، وسواء كان متربصاً ـ وهو الذي يشتري التجارة وقت رخصها ويدخرها إلى وقت ارتفاع السعر ـ أو مديراً كالتجار الذين في الحوانيت، سواء كانت التجارة بَزا من جديد، أو لبيس، أو طعاماً من قوت أو فاكهة، أو أدم أو غير ذلك، أو كانت آنية كالفخار ونحوه، أو حيواناً من رقيق أو خيل، أو بغال، أو حمير، أو غنم معلوفة، أو غير ذلك، فالتجارات هي أغلب أموال أهل الأمصار الباطنة، كما أن الحيوانات الماشية هي أغلب الأموال الظاهرة.] مجموع الفتاوى ٢٥/٤٥. وقول العلامة الألباني في المسألة ذكره في تعليقه على كتاب فقه النة حيث قال: [الحق أن القول بوجوب الزكاة على عروض التجارة مما لا دليل عليه في الكتاب والسنة الصحيحة، مع منافاته لقاعدة " البراءة الأصلية" التي يؤيدها هنا قوله صلى الله عليه وآله في خطبة حجة الوداع: (فإن دماءكم، وأموالكم، وأعراضكم، وأبشاركم عليكم حرام، كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا، ألا هل بلغت؟ ! اللهم فاشهد) الحديث. رواه الشيخان وغيرهما ... ] تمام المنة في التعليق على فقه السنة ص ٣٦٣-٣٦٤. قلت وكلام العلامة الألباني غير مُسَلَّم، بل الزكاة في عروض التجارة قامت عليها أدلة من الكتاب والسنة والإجماع والقياس، فمن الكتاب الكريم قال الله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا} سورة التوبة الآية ١٠٣. قال الشيخ ابن العربي المالكي: [والزكاة واجبة في العروض من أربعة أدلة: الأول: قول الله عزَّ وجَلَّ: {خُذْ مِنْ أمْوَالِهِمْ صَدَقَةٍ} وهذا عام في كل مال على اختلاف أصنافه وتباين أسمائه، واختلاف أغراضه، فمن أراد أن يخصه بشيء فعليه الدليل.] عارضة الأحوذي شرح سنن الترمذي ٣/٨٦. وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَنفِقُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ الأَرْضِ} سورة البقرة الآية ٢٦٧. قال الإمام البخاري في صحيحه: [باب صدقة الكسب والتجارة لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَنفِقُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ} إلى قوله {أَنَّ اللهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ} . قال الحافظ ابن حجر العسقلاني: [هكذا أورد هذه الترجمة مقتصراً على الآية بغير حديث، وكأنه أشار إلى ما رواه شعبة عن الحكم عن مجاهد في هذه الآية {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَنفِقُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ} قال: من التجارة الحلال. أخرجه الطبري وابن أبي حاتم من طريق آدم عنه] فتح الباري٥/٥١. وقال الإمام الجصاص الحنفي: [وقد روي عن جماعة من السلف في قوله تعالى {أنفقوا من طيبات ما كسبتم} أنه من التجارات، منهم الحسن ومجاهد، وعموم هذه الآية يوجب الصدقة في سائر الأموال، لأن قوله تعالى {ما كسبتم} ينتظمها وإن كان غير مكتف بنفسه في المقدار الواجب فيها، فهو عموم في أصناف الأموال، مجمل في المقدار الواجب فيها، فهو مفتقرٌ إلى البيان، ولما ورد البيان من النبي صلى الله عليه وسلم بذكر مقادير الواجبات فيه صح الاحتجاج بعمومها في كل مال اختلفنا في إيجاب الحق فيه، نحو أموال التجارة، ويُحتج بظاهر الآية على من ينفي إيجاب الزكاة في العروض] أحكام القرآن ٢/١٧٤. ومن السنة النبوية ما ورد في الحديث عن أبي ذر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (في الإبل صدقتها، وفى البقر صدقتها، وفى البَز - الثياب - صدقته) ، قال الإمام النووي: [هذا الحديث رواه الدارقطني في سننه والحاكم أبو عبد الله في المستدرك والبيهقي بأسانيدهم، ذكره الحاكم بإسنادين ثم قال هذان الإسنادان صحيحان على شرط البخاري ومسلم ... وفى البَز صدقته هو بفتح الباء وبالزاي، هكذا رواه جميع الرواة وصرح بالزاي الدارقطني والبيهقي] المجموع ٦/٤٧. وفي هذا الحديث - وهو حديث صحيح كما قال النووي في المرجع السابق- دلالة واضحة على وجوب الزكاة في عروض التجارة، لأن الثياب لا تجب فيها الزكاة فيها إلا إذا كانت معدة للتجارة، فينبغي حمل الحديث على ذلك. ومن السنة النبوية أيضاً عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصدقة، فقيل منع ابن جميل وخالد بن الوليد وعباس بن عبد المطلب. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ما ينقم ابن جميل إلا أنه كان فقيراً فأغناه الله ورسوله، وأما خالد فإنكم تظلمون خالداً، قد احتبس أدراعه وأعتده في سبيل الله، وأما العباس بن عبد المطلب فعم رسول الله صلى الله عليه وسلم فهي عليه صدقة ومثلها معها) رواه البخاري ومسلم. قال الإمام النووي: [قال أهل اللغة: الأعتاد: آلات الحرب من السلاح والدواب وغيرها، والواحد عتاد بفتح العين، ويجمع أعتاداً وأعتدة. ومعنى الحديث: أنهم طلبوا من خالد زكاة أعتاده ظناً منهم أنها للتجارة، وأن الزكاة فيها واجبة، فقال لهم: لا زكاة لكم عليَّ، فقالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: إن خالداً منع الزكاة، فقال لهم: إنكم تظلمونه؛ لأنه حبسها ووقفها في سبيل الله قبل الحول عليها، فلا زكاة فيها. ويحتمل أن يكون المراد: لو وجبت عليه زكاة لأعطاها ولم يشح بها؛ لأنه قد وقف أمواله لله تعالى متبرعاً فكيف يشح بواجب عليه؟ واستنبط بعضهم من هذا وجوب زكاة التجارة، وبه قال جمهور العلماء من السلف والخلف خلافاً لداود] شرح النووي على صحيح مسلم ٣/٤١٦. وعن سمرة بن جندب رضي الله عنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرنا أن نخرج الزكاة مما نعده للبيع) رواه أبو داود والدارقطني والطبراني والبيهقي. وحديث سمرة بن جندب سكت عنه أبو داود والمنذري، وحسنه الحافظ ابن عبد البر. وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: (ليس في العروض زكاة إلا ما كان للتجارة) رواه البيهقي بإسناده عن أحمد بن حنبل بإسناده الصحيح كما قال النووي في المجموع ٦/٤٨. وعن عبد الرحمن بن عبدٍ القاري قال: كنت على بيت المال زمان عمر بن الخطاب، فكان إذا خرج العطاء جمع أموال التجار ثم حسبها، غائبها وشاهدها، ثم أخذ الزكاة من شاهد المال عن الغائب والشاهد) . قال ابن حزم وهو خبر صحيح المحلى ٧/٥٨. ويدل على ذلك أيضاً ما ورد عن أبي عمرو بن حماس عن أبيه قال: أمرني عمر قال: أدِ زكاة مالك، فقلت: مالي مال إلا جعابٌ وأُدُمٌ، فقال: قومها ثم أد زكاتها. رواه الشافعي وأحمد وبن أبي شيبة وعبد الرزاق وسعيد بن منصور والدارقطني. قال الشيخ ابن قدامة المقدسي: [وهذه قصةٌ يشتهر مثلها ولم تنكر فيكون إجماعاً] المغني ٢/٦٢٣. والجعاب جمع جعبة وهي وعاء توضع فيه السهام. انظر المصباح المنير ص ١٠٢ والأُدُم جمع أديم وهو الجلد المدبوغ، انظر المصباح المنير ص ٩.

ويدل لقول الجمهور أيضاً ما صح عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه كان يقول: (لا بأس بالتربص حتى المبيع والزكاة واجبة فيه) ، وما صحّ عن عمر بن عبد العزيز أنه كتب إلى أحد عماله: انظر مَن مرَّ بك من المسلمين، فخذ مما ظهر من أموالهم مما يديرون في التجارات، من كل أربعين ديناراً: ديناراً، وما نقص فبحساب ذلك، حتى تبلغ عشرين ديناراً. ذكره أبو عبيد في الأموال وابن حزم في المحلى. وغير ذلك من الآثار، وأما الإجماع فقد نقله غير واحدٍ من أهل العلم، وأما القياس [فهو - كما ذكر ابن رشد- أن العروض المتخذة للتجارة مالٌ مقصودٌ به التنمية، فأشبه الأجناس الثلاثة التي فيها الزكاة باتفاق، أعني: الحرث والماشية والذهب والفضة، وأما من جهة النظر والاعتبار المستند إلى قواعد الإسلام وروحه العامة: فإن عروض التجارة المتداولة للاستغلال نقودٌ معنىً، لا فرق بينها وبين الدراهم والدنانير التي هي أثمانها، إلا في كون النصاب يتقلب ويتغير بين الثمن وهو النقد، والمثمن وهو العروض؛ فلو لم تجب الزكاة في التجارة، لأمكن لجميع الأغنياء أو أكثرهم: أن يتجروا بنقودهم، ويتحروا ألا يحول الحَوْل على نصاب من النقدين أبداً، وبذلك تعطل الزكاة فيهما عندهم، إن التجار في عصرنا - دون قصد منهم إلى الفرار من الزكاة - قلَّما توجد لديهم نقودٌ عينية يحول عليها الحول، فمعظم التعامل التجاري الآن يتم بغير تقابض، إلا بالشيكات ونحوها. ورأس الاعتبار في المسألة - كما قال العلاَّمة السيد رشيد رضا - أن الله تعالى فرض في أموال الأغنياء صدقة، لمواساة الفقراء، ومن في معناهم، وإقامة المصالح العامة للدين الإسلامي وأمته، وأن الفائدة في ذلك للأغنياء: تطهير أنفسهم من رذيلة البخل، وتربيتها بفضائل الرحمة للفقراء، وسائر أصناف المستحقين، ومساعدة الدولة والأمة في إقامة المصالح العامة الأخرى، والفائدة للفقراء وغيرهم: إعانتهم على نوائب الدهر، مع ما في ذلك من سد ذريعة المفاسد، وهي تضخم الأموال وحصرها في أناس معدودين - وهو المشار إليه بقوله تعالى في حكمة قسمة الفيء {كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأغْنِيَاءِ مِنكُمْ} فهل يعقل أن يخرج من هذه المقاصد الشرعية كلها التجار الذين ربما تكون معظم ثروة الأمة في أيديهم؟] فقه الزكاة ١/٣٢١-٣٢٢. والمسألة فيها تفصيل أكثر مما ذكرت ولكن المقام لا يحتمل.

وخلاصة الأمر أن الزكاة واجبة في عروض التجارة على الصحيح من أقوال أهل العلم، وما ذهب إليه العلامة الألباني من عدم وجوبها، فقول شاذٌ مخالفٌ لما قرره جماهير علماء الإسلام، استناداً إلى أدلة عامة من كتاب الله عز وجل وأخرى خاصة من الأحاديث والآثار والإجماع والقياس.

<<  <  ج: ص:  >  >>