للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

[٣ - استقبال رمضان]

يقول السائل: انتشرت ظاهرة تركيب الزينات والأنوار لاستقبال شهر رمضان، فما حكم ذلك، أفيدونا؟

الجواب: إن من يقرأ سير السلف الصالح وكيف كان حالهم في استقبال شهر رمضان يجد بوناً شاسعاً بين حالهم وحالنا، ذكر الحافظ ابن رجب الحنبلي عن معلى بن الفضل قوله: (كانوا يدعون الله تعالى ستة أشهر أن يبلغهم رمضان ثم يدعونه ستة أشهر أن يتقبل منهم) وذكر عن يحيى بن أبي كثير كان من دعائهم: (اللهم سلمني إلى رمضان وسلم لي رمضان وتسلمه مني متقبلاً) لطائف المعارف ص ٢٨٠. ونجد أن استقبال السلف لرمضان يكون بالتوبة الصادقة والإنابة والإقبال على الله، ويكون بالطاعات وإصلاح النفوس ظاهراً وباطناً، والاستعداد للاجتهاد في العبادات من صيام وزكاة وقيام قراءة للقرآن وذكر لله عز وجل ونحوها من أنواع القربات. وأما استقبال رمضان في زماننا فمختلف تماماً عما سبق، فأغلب وسائل الإعلام وخاصة الفضائيات، تستعد لاستقبال رمضان بإعداد المسلسلات والتمثيليات الهابطة والفاسدة، وهنالك العشرات بل المئات من القنوات الفضائية التي أصبحت معولاً من معاول محاربة الدين والأخلاق والفضيلة، بل هي منابر لنشر الفساد والرذيلة، ومع الأسف الشديد فإن القنوات الفضائية قد دخلت بيوتنا، وأصبحت مربيةً لأبنائنا وبناتنا، ومرشدةً لزوجاتنا، وموجهةً لشبابنا ورجالنا، إلا من رحم ربي وحماه من هذه الطوفان الهادر، والفيضان الرهيب. ومن ضمن سموم القنوات الفضائية، هذه المسلسلات الفاسدة المفسدة، الطافحة بالانحرافات الفكرية والمسلكية، التي تتعارض مع ديننا ومع أخلاقنا ومع عادتنا وتقاليدنا الأصيلة، هذه المسلسلات التي تنشر الفواحش والمنكرات، وتجعل الزنا أمراً عادياً، وتجعل العلاقات الجنسية خارج نطاق الزواج وما يترتب عليها من حملٍ، أموراً طبيعية، يجب على الأسرة أن تتقبلها وتقر بها، هذه المسلسلات التافهة التي تروج [للممارسات غير الأخلاقية التي اجتاحت بعض المجتمعات كهروب الفتيات والزواج السري وغيرها ... إن الدراما العربية ووسائل الإعلام ساهمت في تلك الانحرافات وأن نموذج الراقصة أو الفنانة التي تهرب من بيت الأسرة تحت دعاوى الضغوط الأسرية وإظهارها بعد ذلك بمظهر القدوة والبطولة قد أثر في وجدان العديد من الفتيات وصرن يمارسنه في الواقع كما أن الترويج لمفهوم معين للحب يقوم على التلاقي بين الفتى والفتاة بعيداً عن الأسرة والأطر الشرعية عبر اإلحاح الإعلامي بكل وسائله أثر بشكلٍ كبيرٍ على المجتمع وعلى طبيعة العلاقات التي تحكم الرجل بالمرأة فالعديد من الأفلام تصور الراقصة بطلة ولديها أخلاقيات ومثل عليا!!! ... وفي بعض الأفلام تعيش المرأة المتزوجة مع حبيبها وتقدم هذه المرأة على أنها تستحق التعاطف معها!!] من دراسة ميدانية للدكتور أحمد المجذوب الخبير الاجتماعي، عن الإنترنت. كما أن هذه المسلسلات التافهة تبرز المرأة كرمزٍ للجنس المكشوف أو الموارب. ويضاف إلى ذلك أن هذه المسلسلات قد أسهمت في تفكيك الحياة الأسرية بزيادة المشكلات في البيوت، وزيادة عدد حالات الطلاق، يقول أحد قضاة المحاكم الشرعية في السعودية: [الفضائيات تتسبب في ارتفاع حالات الطلاق، فالفضائيات تدعو إلى تمرد المرأة على زوجها، فهي تظهر لها أن الزوج متسلط وظالم، سلب منها حقوقها وحياتها. كما أن من أسباب الطلاق مقارنة الزوج لزوجته بنساء الفضائيات، اللائي جملّتهن كاميرات التصوير حتى القبيحات منهن أصبحن جميلات بفعل أنواع الماكياج] مجلة الأسرة العدد ١٠٥، وهذا غيضٌ من فيض قاذورات القنوات الفضائية الفاسدة والمفسدة المتخصصة في محاربة ما بقي لدى المجتمع من قيمٍ وأخلاقٍ وعاداتٍ كريمة. إن هذه القنوات الفضائية ينطبق عليها قول الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَءَامَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ} سورة النور الآية ١٩. ويضاف إلى ذلك استعداد القنوات الفضائية لاستقبال شهر رمضان بتقديم برامج الطبخ الكثيرة جداً في رمضان والتي تهدف إلى تغريب المجتمع حتى في طعامه وتطبيعه بطبائع غير المسلمين في قضايا الأكل والشرب، بالإضافة لما تغرسه في نفوس الناس من اهتمامٍ زائدٍ بالطعام وأشكاله وأنواعه وطرق تقديمه وما يتبع ذلك من زيادة الإنفاق على الطعام والشراب وما يتعلق بهما من أجهزة وأدوات، ولا يقولن أحدٌ بأن برامج الطبخ هذه إنما هي برامج مفيدة، فإن ورائها أهدافاً وغايات ليست بريئة!! وخاصة أن هنالك قنوات فضائية متخصصة في الطبخ؟!!

إن ما تقوم به أغلب الفضائيات في رمضان يهدف إلى إفساد هذه العبادة العظيمة- عبادة الصيام - على الناس وإفراغها من مضامينها الإيمانية من خلال تقديم التمثيليات والمسلسلات المختلفة وبعضها يزعمون أنها دينية وهي في معظمها لا علاقة لها بالدين إلا في الاسم. وكذلك المسابقات التي يتفننون في أسمائها وأشكالها وهدفها الحقيقي إنما هو إفساد الناس وأخلاقهم وتضييع أموالهم في أمورٍ العلم به لا ينفع والجهل به لا يضر، فعلينا أن نحذر الشيطان وأعوانه من شياطين الإنس من الممثلين والممثلات والمطربين والمطربات، الذين تقدمهم الفضائيات على أنهم نجوم وكواكب وهم في الحقيقة من الديوثين والديوثات.

إذا اتضحت ملامح صورة المقارنة بين حالنا وبين حال السلف في استقبال رمضان، أقول: إن الفرح والسرور بقدوم رمضان أمر مشروع، وقد ورد في الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبشر أصحابه ويقول: قد جاءكم شهر رمضان، شهر مبارك، افترض الله عليكم صيامه، يفتح فيه أبواب الجنة ويغلق فيه أبواب الجحيم وتغل فيه الشياطين فيه ليلة خير من ألف شهر من حرم خيرها فقد حرم أيوب) رواه الإمام أحمد والنسائي وصححه العلامة الألباني في صحيح الترغيب والترهيب ١/٥٨٥. قال الحافظ ابن رجب الحنبلي: [قال بعض العلماء: هذا الحديث أصل في تهنئة الناس بعضهم بعضاً بشهر رمضان، كيف لا يبشر المؤمن بفتح أبواب الجنان، كيف لا يبشر المذنب بغلق أبواب النيران، كيف لا يبشر العاقل بوقت يغل فيه الشياطين، من أين يشبه هذا الزمان زمان] لطائف المعارف ص ٢٧٩. وورد في الحديث عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: دخل رمضان فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن هذا الشهر قد حضركم وفيه ليلة خير من ألف شهر، منْ حرمها فقد حرم الخير كله ولا يحرم خيرها إلا محروم) رواه ابن ماجة وإسناده حسن كما قال العلامة الألباني في صحيح الترغيب والترهيب ١/٥٨٦. واستقبال شهر رمضان يكون أولاً بالاستعداد النفسي وإصلاح الباطن والظاهر قبل الاستعداد بالمظاهر الخارجية كإضاءة الأنوار والفوانيس وغيرها من المظاهر.

أتى رمضانُ مزرعة العباد ... لتطهير القلوب من الفساد

فأدِّ حقوقه قولاً وفعلاً ... وزادُك فاتخذه للمعاد

فمن زرع الحبوب وما سقاها ... تأوه نادماً يوم الحصاد

فشهر رمضان فرصة عظيمة للتوبة والمغفرة، فقد ورد في الحديث عن كعب بن عجرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: احضروا المنبر فحضرنا، فلما ارتقى درجة قال: آمين، فلما ارتقى الدرجة الثانية قال: آمين، فلما ارتقى الدرجة الثالثة قال: آمين، فلما نزل قلنا يا رسول الله لقد سمعنا منك اليوم شيئاً ما كنا نسمعه، قال: إن جبريل عليه السلام عرض لي فقال: بَعُدَ من أدرك رمضان فلم يغفر له، قلت آمين، فلما رقيت الثانية قال: بَعُدَ من ذكرتَ عنده فلم يصل عليك، فقلت آمين، فلما رقيت الثالثة قال: بَعُدَ من أدرك أبويه الكبرُ عنده أو أحدهما فلم يدخلاه الجنة قلت آمين. رواه الحاكم وقال صحيح الإسناد، وصححه العلامة الألباني في صحيح الترغيب والترهيب ١/٥٨٣. إذا تقرر هذا فإن تركيب الزينات والأنوار لاستقبال شهر رمضان، أمرٌ لا بأس به إن كان الهدف منه إظهار السرور بقدوم شهر رمضان، وبشرط أن لا يكون هنالك مبالغة فيه أو إسراف وتبذير. ولا بد من التنبيه إلى أن هذا الأمر من الأمور العادية ولا مدخل للعبادة فيه، والأمور العادية قد يؤجر المرء عليها بحسب نيته، ويمكن أن يقاس على ما يعتبره الفقهاء من باب إظهار الشعائر كما قال بعض فقهاء الحنفية باستحباب ربط الأضحية أمام البيت قبل الذبح، لما فيه من الاستعداد للقربة وإظهار الرغبة فيها، فيكون له فيها أجر وثواب؛ لأن ذلك يشعر بتعظيم هذه الشعيرة قال الله تعالى: {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} سورة الحج الآية ٣٢. انظر بدائع الصنائع ٤/٢١٩. وخلاصة الأمر أن استقبال رمضان يكون بالطاعات وإصلاح النفوس ظاهراً وباطناً، والاستعداد للاجتهاد في العبادات من صيام وزكاة وقيام قراءة للقرآن وذكر لله عز وجل ونحوها من أنواع القربات، وبعد ذلك لا بأس بوضع الأنوار والزينة بدون مبالغة ولا تبذير.

<<  <  ج: ص:  >  >>