للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[٣ - معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تقولوا للمنافق سيدنا)]

يقول السائل: قرأت حديثاً عن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (لا تقولوا للمنافق سيدنا، فإنه إن يكُ سيدكم فقد أسخطتم ربكم عز وجل) فما معنى الحديث، أفيدونا؟

الجواب: هذا الحديث رواه الإمام أحمد وأبو داود والبخاري في الأدب المفرد وابن السني في عمل اليوم والليلة والبيهقي في شعب الإيمان، وهو حديث صحيح كما قال العلامة الألباني، وقال أيضاً: [ثم الحديث رواه عقبة بن عبد الله ... بلفظ: (إذا قال الرجل للمنافق: يا سيد، فقد أغضب ربه تبارك وتعالى) أخرجه أبو نعيم في أخبار أصبهان والحاكم والخطيب، وقال الحاكم: صحيح الإسناد، وتعقبه الذهبي بقوله: قلت: عقبة ضعيف. قلت: لكن تابعه قتادة كما سبق، فالحديث صحيح] السلسلة الصحيحة ١/٦٤٥. ومعنى الحديث كما قال شرَّاح الحديث: [مفهومه أنه يجوز أن يقال للمؤمن سيدٌ، وهو لا ينافي ما رواه أحمد والحاكم عن عبد الله بن الشخير مرفوعاً: (السيد الله) ، لأن في الحقيقة لا سيادة إلا له، وما سواه مملوكه، فإنه أي الشأن أو المنافق إن يك سيداً أي سيد قوم أو صاحب عبدٍ وإماءٍ وأموالٍ (أسخطتم ربكم) ، أي أغضبتموه لأنه يكون تعظيماً له وهو ممن لا يستحق التعظيم، فكيف إن لم يكن سيداً بأحدٍ من المعاني، فإنه مع ذلك يكون كذباً ونفاقاً وفاقاً، وفي النهاية- لابن الأثير-: فإنه إن كان سيدكم وهو منافق فحالكم دون حاله والله لا يرضى لكم ذلك. وقال الطيبي أي إن يك سيداً لكم فتجب عليكم طاعته فإذا أطعمتموه فقد أسخطتم ربكم، أو لا تقولوا للمنافق سيد فإنكم إن قلتم ذلك فقد أسخطتم ربكم فوضع الكون موضع القول تحقيقا له] مرقاة المفاتيح١٤/٤٨، وانظر عون المعبود ١١/١٢. وقال الإمام النووي: [اعلم أن السيد يطلق على الذي يفوق قومه ويرتفع قدره عليهم، ويطلق على الزعيم والفاضل، ويطلق على الحليم الذي لا يستفزه غضبه، ويطلق على الكريم، وعلى المالك، وعلى الزوج، وقد جاءت أحاديث كثيرة بإطلاق سيد على أهل الفضل، فمن ذلك ما رويناه في صحيح البخاري عن أبي بكرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم صعد بالحسن بن علي رضي الله عنهما المنبر فقال: "إن ابني هذا سيدٌ، ولعل الله تعالى أن يصلح به بين فئتين من المسلمين " وروينا في صحيحي البخاري ومسلم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " للأنصار لما أقبل سعد بن معاذ رضي الله عنه: " قوموا إلى سيدكم " ... وروينا في صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن سعد بن عبادة رضي الله عنه قال: " يا رسول الله أرأيت الرجل يجد مع امرأته رجلاً أيقتله؟ الحديث، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " انظروا إلى ما يقول سيدكم ". وأما ما ورد في النهي: فما رويناه بالإسناد الصحيح في سنن أبي داود عن بريدة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا تقولوا للمنافق سيد، فإنه إن يك سيداً فقد أسخطتم ربكم عز وجل " قلت- أي النووي -: والجمع بين هذه الأحاديث أنه لا بأس بإطلاق فلان سيد ويا سيدي وشبه ذلك إذا كان المسود فاضلاً خيراً، إما بعلمٍ وإما بصلاحٍ وإما بغير ذلك، وإن كان فاسقاً أو متهماً في دينه أو نحو ذلك، كره له أن يقال سيد.] الأذكار ص٣١١-٣١٢. وجاء في الموسوعة الفقهية الكويتية ١١/٣٤٩-٣٥٠: [من يستحق التسويد: لفظ السيد مشتق من السؤدد، وهو: المجد والشرف، ويطلق على المتولي للجماعة. ومن شرطه وشأنه أن يكون مهذب النفس شريفاً. وعلى من قام به بعض خصال الخير من الفضل والشرف والعبادة والورع والحلم والعقل والنزاهة والعفة والكرم ونحو ذلك. - وأما - إطلاق لفظ السيد على المنافق، فالمنافق ليس من هذه الخصال في شيء؛ لأنه كاذب مدلس خائن، لا توافق سريرته علانيته. وفي العقيدة يبطن الكفر ويظهر الإسلام. وقد ورد النهي عن إطلاق لفظ السيد على المنافق فيما روي عن عبد الله بن بريدة عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تقولوا للمنافق سيد، فإنه إن يك سيدكم فقد أسخطتم ربكم عز وجل" وذلك لأن السيد هو المستحق للسؤدد، أي للأسباب العالية التي تؤهله لذلك، فأما المنافق فإنه موصوف بالنقائص، فوصفه بذلك وضع له في مكان لم يضعه الله فيه، فلا يبعد أن يستحق واضعه بذلك سخط الله.] إذا تقرر هذا فإن الأصل في المسلم أن يعظم ما عظَّمه الله عز وجل وعظَّمه رسوله صلى الله عليه وسلم، كما قال تعالى: {ذلك وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} سورة الحج الآية ٣٢. ويقول تعالى: {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّه} سورة الحج الآية ٣٠. ولا يجوز للمسلم أن يعظَّم غير ما عظَّمه دينه، بل أهانه لفسقه وفجوره، ويدخل في ذلك تعظيم المنافقين كما في الحديث محل السؤال، وكذا تعظيم الفاسدين والمفسدين والفاسقين والظالمين والكافرين، الذين يحاربون الله ورسوله ويحاربون شرع الله ودينه، ويقتلون المسلمين ويذبحونهم وينتهكون حرمات الله ولا يرقبون في مؤمن إلاً ولا ذمة، فهؤلاء أهلٌ للإهانة والإزدراء، وليسوا أهلاً للتعظيم والتبجيل، وتعظيم أعداء الله وحبهم ومودتهم له ارتباط وثيق بعقيدة الولاء والبراء في دين الإسلام، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من أحب في الله وأبغض في الله وأعطى لله ومنع لله، فقد استكمل الإيمان) رواه أحمد وأبو داود والنسائي والبيهقي وصححه العلامة الألباني في صحيح الترغيب والترهيب ٣/٩٤. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تصاحب إلا مؤمناً، ولا يأكل طعامك إلا تقي) رواه أبو داود وابن حبان وصححه العلامة الألباني في المصدر السابق٣/٩٥. وقال أبو الوفاء بن عقيل الحنبلي: [إذا أردت أن تعلم محل الإسلام من أهل الزمان، فلا تنظر إلى زحامهم في أبواب الجوامع، ولا ضجيجهم في الموقف بلبيك، وإنما انظر إلى مواطأتهم أعداء الشريعة] الآداب الشرعية ١/٢٩٩. وقد عنون الإمام النووي للحديث السابق بقوله: [باب النهي عن مخاطبة الفاسق والمبتدع ونحوهما بسيد ونحوه] قال الشيخ ابن علان في شرح العنوان: [من أصر على معصية صغيرة أو أتى كبيرة (والمبتدع) أي ذي البدعة، بالخروج عن اعتقاد الحق الذي جاء به الكتاب والسنة إلى ما يزينه الشيطان، (ونحوهما) من الظلمة وأعوانهم، (بسيد ونحوه) مما يدل على تعظيمه، وذلك قياساً على ما في الحديث الآتي، لأن المعنى فيه تعظيم من أهانه الله ... ] دليل الفالحين لطرق رياض الصالحين٨/٥٤٢. وقال الحافظ المناوي عند شرح الحديث المذكور في السؤال: [وقد كان المصطفى صلى الله عليه وسلم يكره استعمال اللفظ الشريف المصون في حق من ليس كذلك. واستعمال اللفظ المهين المكروه فيمن ليس من أهله. وهذا من ذلك القبيل.] فيض القدير شرح الجامع الصغير ١/٤١١. وفي زماننا هذا كثر مع الأسف الشديد تعظيم من لا يستحقون التعظيم ولا التبجيل، كما هو حاصل مع المطربين والمطربات والممثلين والممثلات والفنانين والفنانات ومن لف لفهم، فتجد أن أكثر وسائل الإعلام تمجد هؤلاء وتعظمهم حتى صنعت منهم نجوماً وكواكبَ وأبطالاً متوهَمين، وتكيل لهم ألفاظ الثناء والمديح بغير حساب، مع أن دور هؤلاء واضح في الفساد والإفساد، بل هم من الذين ينشرون الفواحش والمنكرات في المجتمع، قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} سورة النور الآية ١٩. ويدخل تحت هذا الباب وهو تعظيم من ليس أهلاً للتعظيم، تعظيم وتمجيد الأدباء والشعراء والكتَّاب الذين يفسدون عقول العامة بكتاباتهم وبأشعارهم، والتي تجد فيها محاربة للدين وللأخلاق وللقيم الطيبة، فتجد من يحتفي بهؤلاء ويعظمهم ويرفعهم إلى أعلى المراتب، وتمنح لهم الجوائز التقديرية على كتاباتهم وأشعارهم، مع أن منهم من يستهزئ في كتاباته وأشعاره بعقيدة المة، وينال من الإسلام ومن الرسول صلى الله عليه وسلم ويسب الأنبياء والمرسلين، ويشتم الصحابة، وينتقص من مقام العلماء، ويحارب كل فضيلة، ويدعو للفسق والفجور. ولا شك أن كل هذا من اختلال الموازين في المجتمع ومن عدم التحاكم إلى الميزان الصحيح في وزن الأشخاص وهو كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. يقول اللواء محمود شيت خطاب رحمه الله: [شهدتُ تشييع جنازة المرحوم الشيخ محيى الدين عبد الحميد في القاهرة، ومن الأقدار العجيبة أن أحد الفنانين توفي في نفس اليوم الذي مات فيه الشيخ محيى الدين عبد الحميد، وكان سرادقا الراحِلَين متجاورين، فكان في سرادق الشيخ أقل من عشرة أشخاص، وكان سرادق الفنان يموج بالآلاف. وشَيَّع جثمان الشيخ عدد قليل من الناس، وشَيَّع جثمان الفنان أكثر من عشرة آلاف. وكان الشيخ في حياته المباركة من أكبر علماء اللغة والدين، وقد حقَّق كثيراً من التراث العربي الإسلامي، وخدم العربية والإسلام خدمة باقية لمدة خمسين عاماً. أما الفنان فقد أفنى هو الآخر خمسين سنة من عمره في إفساد الأخلاق وتشجيع التخنّث والانحلال. أهكذا يجازي العرب والمسلمون من يخدم العربية والإسلام خدمة صادقة بالعقوق والإهمال؟! ويكرِّمون من ازدرى العربية وحطّم الخلق الكريم كما يُكَرَّم الأبطال والفاتحون؟!] الوسيط في رسالة المسجد ص ٢٢١.

وخلاصة الأمر أن الحديث المذكور في السؤال حديث صحيح، ويؤخذ منه أنه لا يصح تعظيم المنافقين والمفسدين في الأرض والمحاربين لله ورسوله ولدينه. ويجب على المسلم أن يدرك أن كل كلمة تخرج من فمه فإنه محاسبٌ عليها، فهي إما له، وإما عليه، يقول الله تعالى: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} سورة ق الآية ١٨.

<<  <  ج: ص:  >  >>