للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[١٤ - الأمور المشروعة في حق المضحي]

يقول السائل: سمعت أنه لا يجوز لمن نوى أن يضحي أن يحلق رأسه قبل أن يضحي أفيدونا؟

الجواب: ثبت في الحديث الصحيح عن أم سلمة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا دخلت العشر، وأراد أحدكم أن يضحي فلا يمس من شعره وبشره شيئاً) رواه مسلم. وفي رواية أخرى: (من كان له ذِبح يذبحه فإذا أهلَّ هلالُ ذي الحجة فلا يأخذ من شعره وأظفاره شيئاً حتى يضحي) رواه مسلم. والذِبح بكسر الذال: الذبيحة. وقد قال بمقتضى هذا الحديث طائفة من أهل العلم فيحرم على من أراد الأضحية أخذ شيء من شعره وأظفاره حتى يضحي في وقت الأضحية وهو قول سعيد بن المسيب وربيعة الرأي والإمام أحمد وإسحاق وداود وابن حزم الظاهريين وأبي الحسن العبادي من الشافعية، واحتجوا بحديث أم سلمة السابق وقد ورد بروايات عند مسلم وهي:

أ. عن أم سلمة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا دخلت العشر وأراد أحدكم أن يضحي فلا يمس من شعره وبشره شيئاً) . قيل لسفيان: فإن بعضهم لا يرفعه. قال: لكني أرفعه.

ب. عن أم سلمة رضي الله عنها ترفعه قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا دخل العشر وعنده أضحية يريد أن يضحي فلا يأخذنَّ شعراً ولا يقلمن ظفراً) .

ج. عن أم سلمة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا رأيتم هلال ذي الحجة وأراد أحدكم أن يضحي فليمسك عن شعره وأظفاره) .

د. عن أم سلمة رضي الله عنها قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من كان له ذبح يذبحه فإذا أهل هلال ذي الحجة فلا يأخذنَّ من شعره ولا من أظفاره شيئاً حتى يضحي) .

ووجه الاستشهاد به أن فيه نهي عن أخذ الشعر والأظفار، ومقتضى النهي التحريم كما قال الشيخ ابن قدامة المقدسي في المغني ٩/٤٣٧. وروى مسلم بإسناده عن عمرو بن مسلم بن عمار الليثي قال: (كنا في الحمام قبيل الأضحى فأطلى فيه ناس فقال بعض أهل الحمام: إن سعيد بن المسيب يكره هذا أو ينهى عنه. فلقيت سعيد بن المسيب فذكرت ذلك له فقال: يا ابن أخي هذا حديث قد نُسِيَ وترك. حدثتني أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ... الحديث. وقوله في الحديث أطلى فيه ناس: أي أزالوا شعر العانة بالنورة. واحتجوا أيضاً بما رواه ابن حزم بإسناده أن يحيى بن يعمر كان يفتي بخراسان أن الرجل إذا اشترى أضحية ودخل العشر أن يكف عن شعره وأظفاره حتى يضحي. قال سعيد قال قتادة: فذكرت ذلك لسعيد بن المسيب فقال: نعم. فقلت: عمن يا أبا محمد؟ قال عن أصحاب رسول الله. وقد حمل طائفة من أهل العلم النهي الوارد في حديث أم سلمة على كراهة التنزيه فقط وأيدوا قولهم بما ثبت من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: (لقد كنت أفتل قلائد هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فيبعث هديه إلى الكعبة فما يحرم عليه مما حلَّ للرجال من أهله حتى يرجع الناس) متفق عليه. قال الماوردي: [فكان هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وضحاياه، لأنه كان بالمدينة وأنفذها مع أبي بكر رضي الله عنه سنة تسع، وحكمها أغلظ لسوقها إلى الحرم، فلما لم يحرم على نفسه شيئاً كان غيره أولى إذا ضحى في غير الحرم] الحاوي الكبير ١٥/٧٤. والذي يغلب على ظني ـ بعد طولِ تأملٍ وتفكرٍ ـ رجحان القول الأول لقوة أدلته ويظهر ذلك فيما يلي:

أولاً: إن حديث أم سلمة خاص، وحديث عائشة عام، والخاص مقدم على العام. قال الشيخ ابن قدامة: [وحديثهم عام وهذا خاص يجب تقديمه بتنزيل العام على ما عدا ما تناوله الحديث الخاص] المغني ٩/٤٣٧. وقال الشوكاني: [ولا يخفى أن حديث الباب – أي حديث أم سلمة – أخص منه – أي من حديث عائشة - مطلقاً فيبنى العام على الخاص ويكون الظاهر مع من قال بالتحريم ولكن على من أراد التضحية] نيل الأوطار ٥/١٢٨.

ثانياً: يجب حمل حديث عائشة على غير محل النزاع لوجوه منها: أ - أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن ليفعل ما نهى عنه وإن كان مكروهاً، قال الله تعالى:} وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عنه {سورة هود الآية ٨٨. ب - ولأن أقلَّ أحوال النهي أن يكون مكروهاً، ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم ليفعل المكروه فيتعين حمل ما فعله في حديث عائشة على غيره. ج - ولأن عائشة تخبر عن فعله صلى الله عليه وسلم، وأم سلمة تخبر عن قوله صلى الله عليه وسلم، والقول يقدم على الفعل، لاحتمال أن يكون فعله خاصاً له. ثالثاً: إن ما قاله بعض أهل العلم بأن حديث أم سلمة موقوف؛ غير صحيح، بل هو حديث مرفوع، رفعه جماعة من المحدثين، وقد رواه مسلم مرفوعاً من وجوه: أ. الرواية الأولى في صحيح مسلم بإسناده وفيها حدثنا سفيان ... قيل لسفيان: فإن بعضهم لا يرفعه. قال لكني أرفعه. ب. الرواية الثانية في صحيح مسلم وفيها: (عن أم سلمة ترفعه ...) . ج. الرواية الثالثة في صحيح مسلم مرفوعة. د. الرواية الخامسة في صحيح مسلم مرفوعة. وأجاب العلامة ابن القيم جواباً مفصلاً عن الادعاء بأن حديث أم سلمة موقوف فقال: [وقد اختلف الناس في هذا الحديث وفي حكمه. فقالت طائفة: لا يصح رفعه وإنما هو موقوف. قال الدارقطني في كتاب العلل: ووقفه عبد الله بن عامر الأسلمي ويحيى القطان وأبو حمزة عن عبد الرحمن بن حميد عن سعيد، ووقفه عقيل على سعيد. ووقفه يزيد بن عبد الله بن قسيط عن سعيد عن أم سلمة: قولها. ووقفه عبد الرحمن بن حرملة وقتادة وصالح بن حسان عن سعيد: قوله. والمحفوظ عن مالك موقوف. قال الدارقطني: والصحيح عندي قول من وقفه. ونازعه في ذلك آخرون فصححوا رفعه منهم مسلم بن الحجاج ورواه في صحيحه مرفوعاً. ومنهم أبو عيسى الترمذي قال: هذا حديث حسن صحيح. ومنهم ابن حبان خرَّجه في صحيحه. ومنهم أبو بكر البيهقي قال: هذا حديث قد ثبت مرفوعاً من أوجه لا يكون مثلها غلطاً، وأودعه مسلم في كتابه. وصححه غير هؤلاء وقد رفعه سفيان بن عيينة عن عبد الرحمن بن حميد عن سعيد عن أم سلمة عن النبي صلى الله عليه وسلم. ورفعه شعبة عن مالك عن عمرو بن مسلم عن سعيد عن أم سلمة عن النبي صلى الله عليه وسلم. وليس شعبة وسفيان بدون هؤلاء الذين وقفوه. ولا مثل هذا اللفظ من ألفاظ الصحابة بل هو المعتاد من خطاب النبي صلى الله عليه وسلم في قوله (لا يؤمن أحدكم) (أيعجز أحدكم) (أيحب أحدكم) (إذا أتى أحدكم الغائط) (إذا جاء أحدكم خادمه بطعام) ونحو ذلك] شرح ابن القيم على سنن أبي داود ٧/٣٤٦.

وقال صاحب تحفة الأحوذي بعد أن ذكر الطرق المرفوعة لحديث أم سلمة: [وهذه الطرق المرفوعة كلها صحيحة، فكيف يصح القول بأن حديث أم سلمة الموقوف هو أصل الحديث بل الظاهر أن أصل الحديث المرفوع] تحفة الأحوذي ٥/١٠٠. وقد بيَّن الشيخ الألباني أن الصحيح أن هذا الحديث مرفوع؛ حتى وإن لم يصرح سعيد بن المسيب برفعه فله حكم الرفع لأنه لا يقال بالاجتهاد والرأي إرواء الغليل ٤/٣٧٨. وقال ابن حزم: [ ... ثم لو صح القياس لكان هذا منه عين الباطل، لأنه ليس إذا وجب أن لا يمس الشعر والظفر بالنص الوارد في ذلك، يجب أن يتجنب النساء والطيب، كما أنه إذا وجب اجتناب الجماع والطيب، لم يجب بذلك اجتناب مس الشعر والظفر، فهذا الصائم فرضٌ عليه اجتناب النساء، ولا يلزمه اجتناب الطيب، ولا مس الشعر والظفر، وكذلك المعتكف، وهذه المعتدة يحرم عليها الجماع والطيب، ولا يلزمها اجتناب قص الشعر والأظفار. ... وهذه فتيا صحت عن الصحابة رضي الله عنهم، ولا يعرف فيها مخالفٌ منهم لهم] المحلى ٦/٢٦ وقال ابن القيم: [وأسعد الناس بهذا الحديث من قال بظاهره لصحتة وعدم ما يعارضه ... ولهذا كان أحمد وغيره يعمل بكلا الحديثين: هذا في موضعه وهذا في موضعه. وقد سأل الإمام أحمد أو غيره عبد الرحمن بن مهدي عن هذين الحديثين؟ فقال: هذا له وجه وهذا له وجه] شرح ابن القيم على سنن أبي داود ٧/٣٤٨.

وبعد هذا العرض أرجو أن يكون ما رجحته هو الراجح، وقد كنت أميل للقول بالكراهة فقط، ثم ترجح عندي القول بالتحريم، والله أعلم. والحكمة في النهي عن الأخذ من الشعر والأظفار في حق من أراد الأضحية هي ما قاله الإمام النووي: [قال أصحابنا: والحكمة في النهي أن يبقى كامل الأجزاء ليعتق من النار] شرح النووي على صحيح مسلم ٥/١٢٠. وإذا لم يلتزم مريد الأضحية بهذا النهي فأخذ شيئاً من شعره أو أظفاره فإنه يستغفر الله سبحانه وتعالى ولا فدية فيه إجماعاً سواء فعله عمداً أو نسياناً كما قال الشيخ ابن قدامة في المغني ٩/٤٣٧.

<<  <  ج: ص:  >  >>