للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[٢٧ - عقد الإجارة يورث]

يقول السائل: استأجر والدي محلاً تجارياً وجعله بقالة كبيرة وبعد أقل من سنة توفي والدي ويطالبنا مالك المحل بإخلاء المحل لأن المستأجر قد توفي فهل عقد الإجارة ينتهي بوفاة والدي، أفيدونا؟ الجواب: الإجارة عند الفقهاء عقد معاوضة على تمليك منفعة بعوض، انظر الموسوعة الفقهية ١/٢٥٢. وهي عقد مشروع بكتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم وانعقد الإجماع على ذلك يقول الله تعالى: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} . وورد في الحديث عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (أعطوا الأجير أجره قبل أن يجف عرقه) رواه ابن ماجة وصححه العلامة الألباني في إرواء الغليل حديث رقم ١٤٩٨. وجاء في الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: (قال الله تعالى ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة رجل أعطى بي ثم غدر ورجل باع حراً فأكل ثمنه ورجل استأجر أجيراً فاستوفى منه ولم يعطه أجره) رواه البخاري.

وقد اختلف أهل العلم في فسخ عقد الإجارة بوفاة أحد المتعاقدين، فذهب جمهور الفقهاء المالكية والشافعية والحنابلة وبه قال إسحاق بن راهويه وعثمان البتي وأبو ثور وابن المنذر، إلى أن عقد الإجارة لا يفسخ بوفاة أحد المتعاقدين، وذهب الحنفية وبعض التابعين إلى أنه يفسخ، قال الشيخ ابن قدامة المقدسي [قال: (وإذا مات المكري والمكتري أو أحدهما فالإجارة بحالها) هذا قول مالك والشافعي وإسحاق والبتي وأبي ثور وابن المنذر. وقال الثوري وأصحاب الرأي والليث: تنفسخ الإجارة بموت أحدهما ; لأن استيفاء المنفعة يتعذر بالموت، لأنه استحق بالعقد استيفاءها على ملك المؤجر، فإذا مات زال ملكه عن العين، فانتقلت إلى ورثته، فالمنافع تحدث على ملك الوارث، فلا يستحق المستأجر استيفاءها، لأنه ما عقد مع الوارث، وإذا مات المستأجر، لم يمكن إيجاب الأجر في تركته]

ثم قال الشيخ ابن قدامة المقدسي مستدلاً لقول الجمهور: [ولنا أنه عقد لازم، فلا ينفسخ بموت العاقد، مع سلامة المعقود عليه، كما لو زوج أمته ثم مات، وما ذكروه لا يصح; فإنا قد ذكرنا أن المستأجر قد ملك المنافع, وملكت عليه الأجرة كاملة في وقت العقد ... ولو صح ما ذكروه لكان وجوب الأجر ها هنا بسبب من المستأجر, فوجب في تركته بعد موته, كما لو حفر بئراً , فوقع فيها شيء بعد موته, ضمنه في ماله ; لأن سبب ذلك كان منه في حال الحياة , كذا ها هنا.] المغني ٥/٣٤٧.

وذهب جمهور الفقهاء هو الراجح لأن الإجارة عقد لازم فلا ينفسخ بموت العاقد مع سلامة المعقود عليه, ولذلك تبقى العين عند المستأجر حتى يستوفي منها ما تبقى له من المنفعة، وليس لورثة المؤجر أن يمنعوه من الانتفاع بها، ويدل على ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطى خيبر لأهلها ليعملوا فيها ويزرعوها، ولهم شطر ما يخرج منها واستمر الحال على ذلك في عهد أبي بكر رضي الله تعالى عنه حتى أخرجهم عمر رضي الله عنه، قال الإمام البخاري في صحيحه [باب إذا استأجر أرضاً فمات أحدهما] وقال ابن سيرين ليس لأهله أن يخرجوه إلى تمام الأجل، وقال الحكم والحسن وإياس بن معاوية تمضى الإجارة إلى أجلها، وقال ابن عمر أعطى النبي صلى الله عليه وسلم خيبر بالشطر فكان ذلك على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وصدراً من خلافة عمر ولم يذكر أن أبا بكر وعمر جددا الإجارة بعد ما قبض النبي صلى الله عليه وسلم] صحيح البخاري مع شرحه فتح الباري ٤/٥٨٣.

قال الحافظ ابن حجر العسقلاني في شرح الباب: [ (قوله باب إذا استأجر أرضا فمات أحدهما) أي هل تفسخ الإجارة أم لا؟ والجمهور على عدم الفسخ وذهب الكوفيون والليث إلى الفسخ، واحتجوا بأن الوارث ملك الرقبة والمنفعة تبع لها فارتفعت يد المستأجر عنها بموت الذي آجره، وتعقب بأن المنفعة قد تنفك عن الرقبة كما يجوز بيع مسلوب المنفعة، فحينئذ ملك المنفعة باق للمستأجر بمقتضى العقد.

وقد اتفقوا على أن الإجارة لا تنفسخ بموت ناظر الوقف فكذلك هنا. قوله (وقال ابن سيرين ليس لأهله) أي أهل الميت (أن يخرجوه) أي يخرجوا المستأجر (إلى تمام الأجل وقال الحسن والحكم وإياس بن معاوية تمضى الإجارة إلى أجلها) وصله بن أبي شيبة من طريق حميد عن الحسن وإياس بن معاوية ومن طريق أيوب عن بن سيرين نحوه.

ثم أورد المصنف حديث ابن عمر أعطى النبي صلى الله عليه وسلم خيبر اليهود على أن يعملوها ... وكذلك الطريق المعلقة آخر الباب وهي قوله (وقال عبيد الله بن عمر عن نافع عن بن عمر حتى أجلاهم عمر) ... والغرض منه هنا الاستدلال على عدم فسخ الإجارة بموت أحد المتآجرين وهو ظاهر في ذلك وقد أشار إليه بقوله ولم يذكر أن أبا بكر جدد الإجارة بعد النبي صلى الله عليه وسلم وذكر فيه حديث بن عمر في كراء المزارع وحديث رافع بن خديج في النهي عنه] فتح الباري ٤/٥٨٣-٥٨٤.

قال الماوردي مستدلاً لقول جمهور الفقهاء: [ودليلنا هو أن ما لزم من عقود المعاوضات المحضة لم ينفسخ بموت أحد المتعاقدين كالبيع، فان قيل ينتقض بموت من أجر نفسه لم يصح لأن العقد إنما يبطل بتلف المعقود عليه لا بموت العاقد، ألا تراه لو كان حياً فزمن بطلت الإجارة، وان كان العاقد حياً، ... ويتحرر من هذا الاعتلال قياسان: (أحدهما) أنه عقد لازم على منافع ملكه فلم يبطل بموته ... والثانى: ... ولأن المنافع قد تنتقل بالمعاوضة كالأعيان فجاز أن تنتقل بالإرث كالأعيان. ويتحرر من هذا الاعتلال قياسان: أحدهما: أن ما صح أن ينتقل بعوض صح أن تنقل به المنافع في الإجارات ولأن بالموت يعجز عن إقباض ما استحق تسليمه بعقد الإجارة فلم يبطل بعد العقد كالجنون والزمانة، ولأنه عقد لا يبطل بالجنون فلم يبطل بالموت كالبيع، ولان منافع الأعيان مع بقاء ملكها قد تستحق بالرهن تارة وبالإجارة أخرى. فلما كان ما تستحق منفعته بارتهانه إذا انتقل ملكه بالموت لم يوجب بطلان رهنه وجب أن يكون ما استحقت منفعته بالاجارة إذا انتقل ملكه بالموت لم يوجب بطلان إجارته، وقد استدل الشافعي بهذا في الأم. ولأن الوارث إنما يملك بالإرث ما كان يملكه الموروث، والموروث إنما كان يملك الرقبة دون المنفعة فلم يجز أن يصير الوارث مالكاً للرقبة والمنفعة، ولان إجارة الوقف لا تبطل بموت مؤجره بوفاق أبى حنيفة. وإن قال بعض أصحابنا: تبطل، فكذلك إجارة الملك لا تبطل بموت مؤجره كالوقف] الحاوي الكبير ٧/٤٠١.

وقد سئل شيخ الإسلام ابن تيمية عن رجل استأجر بستاناً مدة عشر سنين وقام بقبض مبلغ الأجرة ثم توفي لانقضاء خمس سنين من المدة وبقي في الإجارة خمس سنين وله ورثة وأقاموا ورثة المتوفى بعد مدة سنة من وفاته. فهل يجوز للمالك فسخ الإجارة على الأيتام؟ أم لا؟ . فأجاب: ليس للمؤجر فسخ الإجارة بمجرد موت المستأجر عند جماهير العلماء؛ لكن منهم من قال: إن الأجرة على المستأجر تحل بموته وتستوفى من تركته فإن لم يكن له تركة فله فسخ الإجارة. ومنهم من يقول: لا تحل الأجرة إذا وثق الورثة برهن أو ضمين يحفظ الأجرة؛ بل يوفونه كما كان يوفيها الميت وهذا أظهر القولين.] مجموع الفتاوى ٣٠/١٥٧.

وسئل الشيخ محمد بن عبد الوهاب عن وقف تعطل وبيع نصفه لإصلاح النصف ... واستؤجر ... من يسقي النصف الآخر عشر سنين فمات الذي استؤجر لما مضى سنتان وأراد ورثته أن يتموا باقي المدة وأراد المستأجر الفسخ؟

فأجاب: الإجارة صحيحة ثابتة لا تنفسخ بموت المستأجر، فإذا تمم الورثة ما على ميتهم استحقوا ما استحقه، وليس للمؤجر الفسخ; ودليل هذا: أن القول بانفساخ الإجارة، أو المساقاة قول ضعيف، رده أهل العلم بالنص الثابت، من ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لما ساقى أهل خيبر، لم يجدد الخلفاء بعده عقداً، فإذا ثبت هذا فقد أمر الله بالوفاء بالعقود بقوله {يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود} سورة المائدة الآية ١، وهذا لفظ عام من جوامع الكلم، فمن ادعى في صورة من العقود أنه لا يجوز، أو لا يجوز الوفاء به لأجل الموت أو غيره، فعليه الدليل، والله يقول الحق وهو يهدي السبيل وكذلك: أن من ادعى أن مثل هذا العقد وغيره، لا يجب الوفاء به، لأجل شرط أو ترك شيء من العقد أو غيره، فعليه الدليل، وقد كمل الله الدين بمحمد صلى الله عليه وسلم والله أعلم.] الدرر السنية في الكتب النجدية ٧/٣٥٥.

وخلاصة الأمر أن عقد الإجارة لا يفسخ بموت المستأجر، وقد جرى عرف الناس في بلادنا على هذا القول الراجح، وإذا قلنا بالفسخ فإن ضرراً واضحاً يلحق بورثة المستأجر، وقد جاءت الشريعة الإسلامية بدفع الضرر فقد: ورد في الحديث عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا ضرر ولا ضرار) رواه أحمد وابن ماجة والبيهقي والحاكم وقال: صحيح الإسناد على شرط مسلم ووافقه الذهبي وقال الشيخ الألباني: صحيح. إرواء الغليل ٣/٤٠٨. وانظر السلسلة الصحيحة حديث رقم ٢٥٠. وبناءً على ما سبق فلا يجوز لصاحب الملك أن يطالب بإخلاء المحل، لأن المستأجر قد توفي، فعقد الإجارة لا ينتهي بوفاة أحد العاقدين، المؤجر أو المستأجر.

<<  <  ج: ص:  >  >>