للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[٤٦ - رد البضاعة بالعيب]

يقول السائل: إنه اشترى بضاعة جديدة وبعد أن استلمها تبين له وجود عيوب فيها فطالب البائع بردها فرفض البائع ردها بحجة أنه لا يعلم عن العيب شيئاً، فما الحكم في ذلك ومتى يجوز الرد بالعيب أفيدونا؟ الجواب: الأصل في المسلم أنه إذا باع سلعة وكان فيها عيب أن يبينه ولا يحل له كتمان العيب لأن هذا من الغش ومن باب أكل أموال الناس بالباطل كما قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً} سورة النساء الآية ٢٩.

وقد ثبت في الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه أن الرسول صلى الله عليه وسلم: (مرََّ على صُبرة طعام - كومة - فأدخل يده فيها فنالت أصابعه بللاً فقال صلى الله عليه وسلم: ما هذا يا صاحب الطعام؟ قال: أصابته السماء يا رسول الله، أي المطر. قال: أفلا جعلته فوق الطعام كي يراه الناس، من غشنا فليس مني) رواه البخاري ومسلم. وفي رواية أخرى عند مسلم: (من غشنا فليس منا) . قال الإمام النووي [ومعناه ليس ممن اهتدى بهديي واقتدى بعلمي وعملي وحسن طريقتي كما يقول الرجل لولده إذا لم يرض فعله لست مني وهكذا في نظائره مثل قوله (من حمل علينا السلاح فليس منا) وكان سفيان بن عيينة يكره تفسير مثل هذا ويقول: بئس مل القول بل يمسك عن تأويله ليكون أوقع في النفوس وأبلغ في الزجر اهـ.] نيل الأوطار ٤/٢٤٠.

وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من غشنا فليس منا والمكر والخداع في النار) رواه ابن حبان والطبراني وهو حديث صحيح كما قال الشيخ الألباني في إرواء الغليل ٥/١٦٤.

ومما يدل على وجوب تبيين العيب في السلعة ما ورد في الحديث عن عقبة بن عامر رضي الله عنه أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (المسلم أخو المسلم ولا يحل لمسلم إذا باع من أخيه بيعاً فيه عيب أن لا يبينه) رواه أحمد وابن ماجة والحاكم وصححه وقال الشيخ الألباني: صحيح. إرواء الغليل ٥/١٦٥. وعن أبي سباع قال: [اشتريت ناقة من دار واثلة بن الأسقع رضي الله عنه فلما خرجت بها أدركني رجل فقال: اشتريت؟ قلت: نعم. قال: وبين لك ما فيها. قلت: وما فيها؟ إنها لسمينة ظاهرة الصحة. قال: أردت بها سفراً أو أردت بها لحماً؟ قلت: أردت بها الحج. قال: ارتجعها فإن بخفها نقباً. فقال صاحبها: ما أردت إلى هذا أصلحك الله تفسد عليَّ. قال: إني سمعت رسول صلى الله عليه وسلم يقول: لا يحل لأحد أن يبيع شيئاً إلا بين ما فيه ولا يحل لمن علم ذلك إلا بينه) رواه الحاكم وصححه ووافقه الذهبي. وعن حكيم بن حزام رضي الله عنه (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال البيعان بالخيار ما لم يفترقا أو قال حتى يفترقا فإن صدقا وبينا بورك لهما في بيعهما وإن كذبا وكتما محقت بركة بيعهما) . قال الإمام الشوكاني: [قوله: (فإن صدقا وبينا) أي صدق البائع في إخبار المشتري وبين العيب إن كان في السلعة، وصدق المشتري في قدر الثمن وبين العيب إن كان في الثمن، ويحتمل أن يكون الصدق والبيان بمعنى واحد وذكر أحدهما تأكيداً للآخر] نيل الأوطار ٤/٢١١.

وبناءً على ما سبق فقد اتفق الفقهاء على ثبوت خيار الرد بالعيب، فمن اشترى سلعة ثم ظهر فيها عيب وهو لا يعلم ثبت له خيار الرد بالعيب سواء علم البائع بالعيب أم لم يعلم. قال الشيخ ابن قدامة المقدسي: [متى علم بالمبيع عيباً لم يكن عالماً به , فله الخيار بين الإمساك والفسخ، سواء كان البائع علم العيب وكتمه أو لم يعلم، لا نعلم بين أهل العلم في هذا خلافاً، وإثبات النبي صلى الله عليه وسلم الخيار بالتصرية - وهي ربط ضرع الناقة أو البقرة أو الشاة حتى يجتمع اللبن فيه - تنبيه على ثبوته بالعيب، ولأن مطلق العقد يقتضي السلامة من العيب بدليل ما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم (أنه اشترى مملوكاً فكتب: هذا ما اشترى محمد بن عبد الله من العداء بن خالد , اشترى منه عبداً أو أمة لا داء به , ولا غائلة بيع المسلم المسلم) فثبت أن بيع المسلم اقتضى السلامة، ولأن الأصل السلامة والعيب حادث أو مخالف للظاهر , فعند الإطلاق يحمل عليها فمتى فاتت فات بعض مقتضى العقد فلم يلزمه أخذه بالعوض , وكان له الرد وأخذ الثمن كاملا ً] المغني ٤/١٠٩.

والعيب الذي ترد به السلعة هو ما أوجب نقصان الثمن في عادة التجار، انظر الموسوعة الفقهية ٣١/٨٣، مجلة الأحكام العدلية المادة ٣٣٨. ويرجع في معرفة العيب إلى أهل الخبرة والعرف ولا خلاف بين الفقهاء في رد السلعة المباعة للعيب وكان العيب منقصاً للقيمة أو مفوتاً غرضاً صحيحاً شرعاً، الموسوعة الفقهية ٣١/٨٧.

وقد قرر الفقهاء شروطاً لإثبات خيار العيب وهي: الشرط الأول: ظهور عيب معتبر بأن يكون مؤثراً في نقص قيمة السلعة أو مفوتاً غرضاً صحيحاً كفوات المنفعة من السلعة. قال الشيخ ابن قدامة المقدسي [العيوب وهي النقائص الموجبة لنقص المالية في عادات التجار لأن المبيع إنما صار محلاً للعقد باعتبار صفة المالية , فما يوجب نقصاً فيها يكون عيباً والمرجع في ذلك إلى العادة في عرف أهل هذا الشأن وهم التجار] المغني ٤/١١٥. ومما يدل على أن فوات المنفعة يعد عيباً ما ورد عن أبي سباع قال: [اشتريت ناقة من دار واثلة بن الأسقع رضي الله عنه فلما خرجت بها أدركني رجل فقال: اشتريت؟ قلت: نعم. قال: وبين لك ما فيها. قلت: وما فيها؟ إنها لسمينة ظاهرة الصحة. قال: أردت بها سفراً أو أردت بها لحماً؟ قلت: أردت بها الحج. قال: ارتجعها فإن بخفها نقباً ... ) حيث إنه أراد الحج على الناقة وكان في خفها نقب والنقب عيب في خف الجمل يجعل الخف رقيقاً فلا يصلح الجمل للسفر، انظر النهاية في غريب الحديث ٥/١٠٢.

الشرط الثاني: قدم العيب بأن يكون العيب في السلعة قبل انتقال ملكيتها للمشتري أي وهي في عهدة البائع، قال الشيخ ابن رشد الحفيد [وأما شرط العيب الموجب للحكم به فهو أن يكون حادثاً قبل أمد التبايع باتفاق] بداية المجتهد ٢/١٤٦.

الشرط الثالث: أن يكون المشتري غير عالم بالعيب عند العقد، قال الشيخ تقي الدين السبكي [إن كان عالماً – أي المشتري - فلا خلاف أنه لا يثبت له الخيار لرضاه بالعيب] تكملة المجموع١٢/ ١٢١ أما إذا علم المشتري بالعيب فسكت، فيسقط حقه في الرد. ومما يدل على هذا الشرط ما ورد في الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه أن الرسول صلى الله عليه وسلم: (مرََّ على صُبرة طعام - كومة - فأدخل يده فيها فنالت أصابعه بللاً فقال صلى الله عليه وسلم: ما هذا يا صاحب الطعام؟ قال: أصابته السماء يا رسول الله، أي المطر. قال: أفلا جعلته فوق الطعام كي يراه الناس ... ) فقوله (أفلا جعلته فوق الطعام كي يراه الناس) دليل على أن علم المشتري بالعيب يخلي البائع من المسؤولية. أحكام العيب ص ١٣٩.

الشرط الرابع: أن لا يكون البائع قد اشترط البراءة من العيب بمعنى أنه شرط في البيع أنه غير مسؤول عن أي عيب يظهر في السلعة فقبل المشتري ذلك، فإن ظهر عيب بعد ذلك فلا خيار للشتري حينئذ.

وبناءً عل ما تقدم فإن ظهور عيب في السلعة وفق الشروط السابقة يثبت حق الخيار للمشتري فله أن يرد السلعة ويسترجع ما دفعه من ثمنها كاملاً، وله أن يقبل بالسلعة المعيبة على أن ينقص البائع من ثمنها ما يقابل العيب. ومما ينبغي التنبيه عليه أن خيار العيب ثابت على التراخي وليس على الفور كما هو مذهب أكثر أهل العلم قال شيخ الإسلام ابن تيمية [وخيار الرد بالعيب على التراخي عند جمهور العلماء كمالك وأبي حنيفة وأحمد في ظاهر مذهبهما، ولهما قول ـ كمذهب الشافعي ـ أنه على الفور، فإذا ظهر ما يدل على الرضا من قول أو فعل سقط خياره بالاتفاق. فإذا بني بعد علمه بالعيب سقط خياره.] مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية ٢٩/٣٦٦.

وقال الشيخ ابن قدامة المقدسي: [خيار الرد بالعيب على التراخي فمتى علم العيب , فأخر الرد لم يبطل خياره حتى يوجد منه ما يدل على الرضا ذكره أبو الخطاب وذكر القاضي شيئاً يدل على أن فيه روايتين إحداهما , هو على التراخي، والثانية هو على الفور، وهو مذهب الشافعي فمتى علم العيب , فأخر رده مع إمكانه بطل خياره لأنه يدل على الرضا به فأسقط خياره , كالتصرف فيه. ولنا أنه خيار لدفع ضرر متحقق فكان على التراخي , كالقصاص ولا نسلم دلالة الإمساك على الرضا به] المغني ٤/١٠٩.

وخلاصة الأمر أن من اشترى سلعة ثم ظهر أنها معيبة فله أن يردها بالعيب ويسترد ما دفع من ثمنها علم البائع بالعيب أم لم يعلم

<<  <  ج: ص:  >  >>