للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[٥٩ - حكم التصرف في المال الموقوف]

يقول السائل: جمعنا مبالغ من المال لإعمار مسجد الحي وقد زادت الأموال عن حاجة المسجد فقامت اللجنة المشرفة على إعمار المسجد بوضع المبلغ الزائد أمانة عند أحد التجار الثقات وتركت له حرية استثماره لنفسه على أن للمسجد المبلغ الأصلي الذي وضع عنده فما حكم ذلك؟ الجواب: إن المال الذي تم جمعه لإعمار المسجد هو مال موقوف على المسجد المذكور ولا يجوز شرعاً التصرف في المال الموقوف إلا حسب ما وقف له وما حصل من لجنة إعمار المسجد من إعطاء الإذن للتاجر بأن يستثمر مال المسجد لنفسه تصرف باطل شرعاً واللجنة المذكورة لا تملك هذا التصرف بحال من الأحوال وعلى التاجر أن يضيف ما تحقق من ربح من تشغيل مال المسجد إلى أصل المال ولا يحل له أن يأخذ منه شيئاً حيث إن المال الموقوف على المسجد يعتبر في حكم المال العام ولا يجوز لشخص أن ينتفع بالمال العام انتفاعاً شخصياً فبأي حق ينتفع هذا التاجر من مال المسجد؟ ولا شك لدي أن هذا العمل يعتبر من أكل المال بالباطل ويدخل أيضاً في باب الغلول يقول الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا) سورة النساء الآية ٢٩. وجاء في الحديث عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن هذا المال خضرة حلوة فمن أخذه بحقه ووضعه في حقه فنعم المعونة هو ومن أخذه بغير حقه كان كالذي يأكل ولا يشبع) رواه البخاري ومسلم. وفي رواية أخرى: (وإن هذا المال خضر حلو ونعم صاحب المسلم هو لمن أعطى منه المسكين واليتيم وابن السبيل أو كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنه من يأخذه بغير حقه كان كالذي يأكل ولا يشبع ويكون عليه شهيداً يوم القيامة) رواه مسلم. وعن خولة الأنصارية رضي الله عنها قالت: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إن رجالاً يتخوضون في مال الله بغير حق فلهم النار يوم القيامة) رواه البخاري. قال الحافظ ابن حجر: [قوله (يتخوضون في مال الله بغير حق) أي يتصرفون في مال المسلمين بالباطل] فتح الباري ٦/٢٦٣.

وروى الإمام البخاري بسنده عن أبي حميد الساعدي رضي الله عنه قال: (استعمل النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً من الأزد يقال له ابن اللتبية على الصدقة فلما قدم قال: هذا مالكم وهذا أهدي إليَّ. فقام النبي صلى الله عليه وسلم فصعد على المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: ما بال العامل نبعثه فيأتي يقول: هذا لك وهذا لي؟ فهلا جلس في بيت أبيه وأمه فينظر أيهدى له أم لا؟ والذي نفسي بيده لا يأتي بشيء إلا جاء به يوم القيامة يحمله على رقبته إن كان بعيراً له رغاء أو بقرة لها خوار أو شاة تيعر ...) . وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (قام فينا النبي صلى الله عليه وسلم فذكر الغلول فعظمه وعظم أمره قال لا ألفين أحدكم يوم القيامة على رقبته شاة لها ثغاء، على رقبته فرس له حمحمة، يقول يا رسول الله أغثني. فأقول: لا أملك لك شيئاً قد أبلغتك وعلى رقبته بعير له رغاء يقول يا رسول الله أغثني فأقول لا أملك لك شيئاً قد أبلغتك وعلى رقبته صامت فيقول يا رسول الله أغثني فأقول لا أملك لك شيئاً قد أبلغتك أو على رقبته رقاع تخفق فيقول يا رسول الله أغثني فأقول لا أملك لك شيئاً قد أبلغتك) رواه البخاري ومسلم. قال الإمام النووي: [قوله: (ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم الغلول فعظمه وعظم أمره) هذا تصريح بغلظ تحريم الغلول وأصل الغلول: الخيانة مطلقاً , ثم غلب اختصاصه في الاستعمال بالخيانة في الغنيمة , قال نفطوية: سمى بذلك لأن الأيدي مغلولة عنه , أي محبوسة , يقال: غلَّ غلولاً وأغل إغلالاً. قوله صلى الله عليه وسلم: (لا أُلفِين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته بعير له رغاء) هكذا ضبطناه (ألفين) بضم الهمزة وبالفاء المكسورة , أي: لا أجدن أحدكم على هذه الصفة , ومعناه: لا تعملوا عملاً أجدكم بسببه على هذه الصفة , ... و (الرغاء) بالمد صوت البعير , وكذا المذكورات بعد وصف كل شيء بصوته. والصامت: الذهب والفضة. قوله صلى الله عليه وسلم: (لا أملك لك من الله شيئاً) قال القاضي: معناه من المغفرة والشفاعة إلا بإذن الله تعالى , قال: ويكون ذلك أولاً غضباً عليه لمخالفته , ثم يشفع في جميع الموحدين بعد ذلك كما سبق في كتاب الإيمان في شفاعات النبي صلى الله عليه وسلم ... وأجمع المسلمون على تغليظ تحريم الغلول , وأنه من الكبائر , وأجمعوا على أن عليه رد ما غله] شرح النووي على صحيح مسلم ٤/٥٣٢.

ونقل الحافظ ابن حجر العسقلاني عن بعض أهل العلم أن هذا الحديث يفسر قوله عز وجل {يأت بما غل يوم القيامة} أي يأت به حاملاً له على رقبته ثم قال [ولا يقال إن بعض ما يسرق من النقد أخف من البعير مثلاً والبعير أرخص ثمناً فكيف يعاقب الأخف جناية بالأثقل وعكسه؟ لأن الجواب أن المراد بالعقوبة بذلك فضيحة الحامل على رؤوس الأشهاد في ذلك الموقف العظيم لا بالثقل والخفة] فتح الباري ٦/٢٢٤. ويضاف إلى ما سبق أن لجنة إعمار المسجد لا تملك أن تهب التاجر المذكور حق استثمار مال المسجد لمنفعته الشخصية فمال الوقف لا تجوز هبته لأي كان وقد جاء في الحديث عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: أصاب عمر رضي الله عنه أرضاً بخيبر فأتى النبي صلى الله عليه وسلم يستأمره فيها، فقال: يا رسول الله إني أصبت أرضاً بخيبر لم أصب مالاً قط هو أنفس عندي منها فما تأمرني به، قال: إن شئت حبست أصلها وتصدقت بها، قال فتصدق بها عمر، إنه لا يباع أصلها ولا يبتاع ولا يورث ولا يوهب) رواه البخاري ومسلم.

وقال الشيخ زكريا الأنصاري: [ليس للناظر أخذ شيء من مال الوقف على وجه الضمان، فإن فعل ضمنه، ولا يجوز له إدخال ما ضمنه فيه أي في مال الوقف، إذ ليس له استيفاؤه من نفسه لغيره] أسنى المطالب في شرح روض الطالب.

وإذا كان العلماء قد نصوا على أنه لا يجوز لأحد أن يأخذ شيئاً مما هو موقوف على المسجد كالمصاحف والكتب والسجاد والحصير وغير ذلك من الأشياء لينتفع بها انتفاعاً شخصياً فهذه الأشياء الموقوفة يكون الانتفاع بها داخل المسجد فقط ولا يجوز لأحد أن يأخذ شيئاً لنفسه منها وإن أذن بذلك إمام المسجد أو مؤذنه لأنهما يتصرفان فيما لا يملكان فالمصاحف والكتب الموقوفة على المسجد لا يملك أحد أن يبطل وقفيتها على المسجد ويحولها إلى ملكية خاصة لبعض المصلين.

وقد نص العلماء على تحريم مثل هذه التصرفات، قال الإمام النووي: [لا يجوز أخذ شيء من أجزاء المسجد كحجر وحصاة وتراب وغيره ... وفي سنن أبي داود بإسناد صحيح عن أبي هريرة قال بعض الرواة أراه رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الحصاة لتناشد الذي يخرجها من المسجد) المجموع ٢/١٧٩. وقال الزركشي: [يحرم إخراج الحصى والحجر والتراب من أجزاء المسجد منه.. ومثله الزيت والشمع] إعلام الساجد بأحكام المساجد ص ٢٣٩. ثم ذكر الحديث الذي ذكره الإمام النووي في كلامه السابق، هذا الحديث قال عنه المنذري: [رواه أبو داود بإسناد جيد، وذكر أن الدارقطني رجح وقفه على أبي هريرة الترغيب والترهيب ١/٢٧٩. والحديث يدل على منع إخراج الحصى من المسجد وقد كان المسجد في العهد النبوي مفروشاً بالحصى فإذا كان لا يجوز إخراج الحصى من المسجد لينتفع به انتفاعاً شخصياً فمن باب أولى أن لا ينتفع بمال المسجد انتفاعاً شخصياً. وكذلك فإن الفقهاء قد جعلوا المال العام بمنزلة مال اليتيم في وجوب المحافظة عليه وشدة تحريم الأخذ منه فهل يملك ولي اليتيم أن يعطي تاجراً شيئاً من مال اليتيم ليستثمره لنفسه. إنه لا يملك ذلك بالتأكيد.

وخلاصة الأمر أن ما قامت به لجنة إعمار المسجد من الإذن للتاجر باستثمار مال المسجد لمنفعته الشخصية عمل باطل شرعاً لأنها لا تملك هذا التصرف ويجب إضافة ما تحقق من ربح لأصل المال.

<<  <  ج: ص:  >  >>