للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[٧٠ - لا يجوز ضمان رأس المال في عقد المضاربة]

يقول السائل: إنه اتفق مع أحد التجار ليدخله شريكاً في تجارته لمدة ثلاث سنوات على أن يدفع للتاجر مبلغ عشرة آلاف دينار وشرط عليه أن يعطيه مائة دينار شهرياً وأن يرد له العشرة آلاف دينار عند انتهاء المدة المتفق عليها فما حكم هذه المعاملة؟ الجواب: المعاملة المذكورة في السؤال باطلة شرعاً من وجهين: الأول منهما أنها في حقيقتها قرض ربوي فالتاجر المذكور اقترض من السائل عشرة آلاف دينار على أن يدفع له ربا (فائدة) على المبلغ وهي مئة دينار شهرياً لأن العبرة في العقود بالمقاصد والمعاني لا بالألفاظ والمباني كما قرر ذلك فقهاؤنا

قال العلامة ابن القيم: [قواعد الفقه وأصوله تشهد أن المرعي في العقود حقائقها ومعانيها لا صورها وألفاظها] زاد المعاد ٥/٢٠٠. وقال في موضع آخر: [والتحقيق أنه لا فرق بين لفظ ولفظ فالاعتبار في العقود بحقائقها ومقاصدها لا بمجرد ألفاظها] زاد المعاد ٥/٨١٣. فكون المتعاقدين قد سميا العقد بينهما شركة فهذا لا يغير من حقيقة كونها ربا شيئاً بناء على القاعدة السابقة. والشركة المقصودة هي شركة المضاربة وعقد المضاربة المعروف عند الفقهاء هو شركة تقوم على العمل من العامل والمال من صاحب المال ويجب أن يكون الربح بينهما بنسبة شائعة كالربع أو الثلث مثلاً أو نسبة مئوية مثل ٢٥% أو حسبما يتفقان عليه والخسارة تون على صاحب المال والعامل يخسر جهده وعمله وتبطل المضاربة إذا اشترط لأحدهما مبلغاً مقطوعاً

قال الشيخ ابن قدامة المقدسي شارحاً قول الخرقي [ولا يجوز أن يجعل لأحد من الشركاء فضل دراهم] قال ابن قدامة [وجملته أنه متى جعل نصيب أحد الشركاء دراهم معلومة , أو جعل مع نصيبه دراهم مثل أن يشترط لنفسه جزءً وعشرة دراهم بطلت الشركة. قال ابن المنذر: أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على إبطال القراض إذا شرط أحدهما أو كلاهما لنفسه دراهم معلومة وممن حفظنا ذلك عنه مالك والأوزاعي والشافعي وأبو ثور وأصحاب الرأي ... وإنما لم يصح ذلك لمعنيين: أحدهما أنه إذا شرط دراهم معلومة احتمل أن لا يربح غيرها , فيحصل على جميع الربح واحتمل أن لا يربحها فيأخذ من رأس المال جزءً وقد يربح كثيرا ً فيستضر من شرطت له الدراهم والثاني أن حصة العامل ينبغي أن تكون معلومة بالأجزاء لما تعذر كونها معلومة بالقدر , فإذا جهلت الأجزاء فسدت كما لو جهل القدر فيما يشترط أن يكون معلوماً به ولأن العامل متى شرط لنفسه دراهم معلومة , ربما توانى في طلب الربح لعدم فائدته فيه وحصول نفعه لغيره بخلاف ما إذا كان له جزء من الربح] المغني ٥/٢٨.

ومن المعلوم أن الربا من كبائر الذنوب وتحريمه قطعي في كتاب الله سبحانه وتعالى وفي سنة النبي صلى الله عليه وسلم قال تعالى: (الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ) سورة البقرة الآيتان (٢٧٥ -٢٧٦) . وقال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ) سورة البقر الآيتان (٢٧٨-٢٧٩) . وقال الرسول صلى الله عليه وسلم: (لعن الله آكل الربا ومؤكله وكاتبه وشاهديه وقال هم سواء) رواه البخاري ومسلم.

والوجه الثاني لبطلان المعاملة المذكورة في السؤال هو أن التاجر قد ضمن رأس المال وهذا الشرط لا يجوز شرعاً لأن يد المضارب يد أمانة وليست يد ضمان ولا يضمن المضارب إلا إذا فرَّط أو قصَّر أو أخلَّ بما شرط عليه صاحب المال والمضاربة مشاركة بالمال من جهة وبالعمل من جهة أخرى فإذا حصلت خسارة فهي على رب المال ويخسر العامل جهده وتعبه فشرط ضمان التاجر لرأس المال ينافي مقتضى العقد فلا يجوز، قال الشيخ ابن قدامة المقدسي [إذا تعدى المضارب وفعل ما ليس له فعله أو اشترى شيئاً نُهي عن شرائه فهو ضامن للمال في قول أكثر أهل العلم روي ذلك عن أبي هريرة وحكيم بن حزام وأبي قلابة ونافع وإياس والشعبي والنخعي والحكم وحماد ومالك والشافعي وإسحاق وأصحاب الرأي ... ولنا أنه متصرف في مال غيره بغير إذنه فلزمه الضمان كالغاصب..] المغني ٥/٣٩.

وقال الإمام الماوردي [ ... فأما تعدي العامل في مال القراض من غير الوجه الذي ذكرنا فعلى ضربين:

أحدهما: أن يكون تعديه فيه لم يؤمر به مثل إذنه بالتجارة في الأقوات فيتجر في الحيوان، فهذا تعد يضمن به المال، ويبطل معه القراض، فيكون على ما مضى في مقارضة غيره بالمال.

والضرب الثاني: أن يكون تعديه لتغريره بالمال، مثل أن يسافر به ولم يؤمر بالسفر أو يركب به بحراً ولم يؤمر بركوب البحر، فإن كان قد فعل ذلك مع بقاء عين المال بيده ضمنه، وبطل القراض بتعديه، لأنه صار مع تعديه في عين المال غاصباً] الحاوي الكبير ٧/٣٤٠-٣٤١. وقال ابن رشد المالكي عند حديثه عن الشروط الفاسدة في القراض (المضاربة) [ومنها إذا شرط رب المال الضمان على العامل، فقال مالك: لا يجوز القراض وهو فاسد، وبه قال الشافعي ... وعمدة مالك أن اشتراط الضمان زيادة غرر في القراض ففسد ... ] بداية المجتهد ونهاية المقتصد ٢/١٩٩.

وأخيراً أنبه على أنه يجوز توقيت المضاربة بمدة معينة على الراجح من أقوال العلماء وهو قول الحنفية والحنابلة قال الشيخ ابن قدامة المقدسي [ويصح تأقيت المضاربة مثل أن يقول: ضاربتك على هذه الدراهم سنة فإذا انقضت فلا تبع ولا تشتر قال مهنا: سألت أحمد عن رجل أعطى رجلاً ألفا مضاربة شهراً قال: إذا مضى شهر يكون قرضاً قال: لا بأس به ... ] المغني ٥/٥٠، وانظر الاختيار لتعليل المختار ٣/٢١.

وخلاصة الأمر أنه لا يجوز اشتراط مبلغ مقطوع في المضاربة لأنها تتحول حينئذ إلى ربا محرم وكذلك لا يجوز أن يضمن العامل رأس المال في المضاربة إلا إذا فرَّط أو قصَّر أو تعدى.

<<  <  ج: ص:  >  >>