للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

[٧٣ - الغش]

يقول السائل: ما قولكم فيما يفعله بعض اللحامين (الجزارين) من بيعهم اللحوم المثلجة المستوردة على أنها لحوم طازجة حيث إنهم يأتون باللحوم المجمدة ثم يطرونها ويبيعونها للناس على أنها لحوم بلدية طازجة وبأسعار اللحم البلدي مع أن الفرق كبير في السعر والجودة بين اللحم المجمد المستورد وبين اللحم البلدي الطازج، أرجو بيان الحكم الشرعي في ذلك الجواب: إن من قواعد البيع والشراء في الشريعة الإسلامية تحريم الغش بكل صوره وأشكاله وقد وردت أدلة كثيرة تدل على تحريم الغش منها ما ثبت في الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه أن الرسول صلى الله عليه وسلم: (مرََّ على صُبرة طعام - كومة - فأدخل يده فيها فنالت أصابعه بللاً فقال: ما هذا يا صاحب الطعام؟ قال: أصابته السماء يا رسول الله، أي المطر. قال: أفلا جعلته فوق الطعام كي يراه الناس، من غشنا فليس مني) رواه البخاري ومسلم. وفي رواية أخرى عند مسلم: (من غشنا فليس منا) . وفي رواية أخرى للحديث السابق عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: (خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى السوق فرأى طعاماً مصبراً فأدخل يده فأخرج طعاماً رطباً قد أصابته السماء فقال لصاحبه: ما حملك على هذا؟ قال: والذي بعثك بالحق إنه لطعام واحد قال: أفلا عزلت الرطب على حدته واليابس على حدته فيبتاعون ما يعرفون، من غشنا فليس منا) رواه الطبراني في الأوسط بإسناد جيد وقال الشيخ الألباني حسن لغيره. صحيح الترغيب والترهيب ٢/٣٣٤-٣٣٥. وجاء في حديث آخر عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من حمل السلاح علينا فليس منا ومن غشنا فليس منا) رواه مسلم وفي قول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث السابق (ليس منا) زجرٌ شديد عن الغش، ورادعٌ من الوقوع في مستنقعه الآسن..قال صاحب عون المعبود [قال الخطابي: معناه ليس على سيرتنا ومذهبنا, يريد أن من غش أخاه وترك مناصحته فإنه قد ترك اتباعي والتمسك بسنتي ... وهذا كما يقول الرجل لصاحبه أنا منك وإليك, يريد بذلك المتابعة والموافقة, ويشهد لذلك قوله تعالى: {فمن تبعني فإنه مني , ومن عصاني فإنك غفور رحيم} ] . عون المعبود شرح سنن أبي داود ٩/٢٣١. وجاء في الحديث أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (المسلم أخو المسلم ولا يحل لمسلم إذا باع من أخيه بيعاً فيه عيب أن لا يبينه) رواه أحمد وابن ماجة والحاكم وصححه وقال الشيخ الألباني: صحيح. إرواء الغليل ٥/١٦٥. وعن أبي سباع قال: [اشتريت ناقة من دار واثلة بن الأسفع رضي الله عنه فلما خرجت بها أدركن رجل فقال: اشتريت؟ قلت: نعم. قال: وبين لك ما فيها. قلت: وما فيها؟ إنها لسمينة ظاهرة الصحة. قال: أردت بها سفراً أو أردت بها لحماً؟ قلت: أردت بها الحج. قال: ارتجعها. فقال صاحبها: ما أردت إلى هذا أصلحك الله تفسد عليَّ. قال: إني سمعت رسول صلى الله عليه وسلم يقول: لا يحل لأحد أن يبيع شيئاً إلا بيّن ما فيه ولا يحل لمن علم ذلك إلا بينه) رواه الحاكم وصححه ووافقه الذهبي.

وهذه الأدلة ظاهرة الدلالة على تحريم الغش باعتباره وسيلة لأكل أموال الناس بالباطل إذ أن حقيقة الغش هي إخفاء وكتمان ما في السلعة من نقص أو عيب. يقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} سورة النساء الآية ٢٩. والغش ينافي عصمة أموال المسلمين التي جاءت بها الشريعة الإسلامية كما جاء في الحديث الشريف من قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يحل مال امرئ مسلم إلا عن طيب نفس) رواه أحمد والبيهقي وابن حبان وغيرهم وهو حديث صحيح كما قال الشيخ الألباني في إرواء الغليل ٥/٢٧٩. والغش بمقتضى الأحاديث السابقة يعتبر من كبائر الذنوب. قال الشيخ ابن حجر الهيتمي المكي: [تنبيه: عدُّ هذا - الغش - كبيرة هو ظاهر بعض ما في هذه الأحاديث من نفي الإسلام عنه مع كونه لم يزل في مقت الله أو كون الملائكة تلعنه ... وضابط الغش المحرم أن يعلم ذو السلعة من نحو بائع أو مشتر فيها شيئاً لو اطلع عليه مريد أخذها ما أخذها بذلك المقابل فيجب عليه أن يعلمه به ليدخل في أخذه على بصيرة، ويؤخذ من حديث واثلة وغيره ما صرح به أصحابنا أنه يجب أيضاً على أجنبي علم بالسلعة عيباً أن يخبر به مريد أخذها وإن لم يسأله عنها كما يجب عليه إذا رأى إنساناً يخطب امرأة ويعلم بها أو به عيباً أو رأى إنساناً يريد أن يخالط آخر لمعاملة أو صداقة أو قراءة ... وعلم بأحدهما عيباً أن يخبر به وإن لم يستشر به كل ذلك أداء للنصيحة المتأكد وجوبها لخاصة المسلمين وعامتهم] الزواجر عن اقتراف الكبائر ١/٥٤٣. وقال الشيخ ابن حجر الهيتمي المكي أيضاً: [ونحن لا نحرم التجارة ولا البيع والشراء فقد كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يتبايعون ويتجرون في البزر وغيره من المتاجر، وكذلك العلماء والصلحاء بعدهم ما زالوا يتجرون ولكن على القانون الشرعي والحال المرضي الذي أشار الله تعالى إليه بقوله عز قائلا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} سورة النساء الآية ٢٩. فبين الله أن التجارة لا تحمد ولا تحل إلا إن صدرت عن التراضي من الجانبين والتراضي إنما يحصل حيث لم يكن هناك غش ولا تدليس، وأما حيث كان هناك غش وتدليس بحيث أخذ أكثر مال الشخص وهو لا يشعر بفعل تلك الحيلة الباطلة معه المبنية على الغش ومخادعة الله ورسوله فذلك حرام شديد التحريم موجب لمقت الله ومقت رسوله وفاعله داخل تحت الأحاديث السابقة والآتية، فعلى من أراد رضا الله ورسوله وسلامة دينه ودنياه ومروءته وعرضه وأخراه أن يتحرى لدينه وأن لا يبيع شيئاً من تلك البيوع المبنية على الغش والخديعة] الزواجر عن اقتراف الكبائر ١/٥٤٦. وقال الشيخ ابن حجر الهيتمي المكي أيضاً: [كله حرام شديد التحريم موجب لصاحبه أنه فاسق غشاش خائن يأكل أموال الناس بالباطل ويخادع الله ورسوله وما يخادع إلا نفسه لأن عقاب ذلك ليس إلا عليه، وكثرة ذلك تدل على فساد الزمان وقرب الساعة، وفساد الأموال والمعاملات ونزع البركات من المتاجر والبياعات والزرعات بل ومن الأراضي المزروعات، وتأمل قوله صلى الله عليه وسلم: (ليس القحط أن لا تمطروا، وإنما القحط أن تمطروا، ولا يبارك لكم فيه) أي بواسطة تلك القبائح والعظيمات التي أنتم عليها في تجاراتكم ومعاملاتكم، ولهذه القبائح التي ارتكبها التجار والمتسببون وأرباب الحرف والصنائع سلط الله عليهم الظلمة فأخذوا أموالهم وهتكوا حريمهم بل وسلط عليهم الكفار فأسروهم واستعبدوهم وأذاقوهم العذاب والهوان ألواناً، وكثرة تسلط الكفار على المسلمين بالأسر والنهب وأخذ الأموال والحريم، إنما حدث في هذه الأزمنة المتأخرة لما أن أحدث التجار وغيرهم قبائح ذلك الغش الكثيرة المتنوعة وعظائم تلك الجنايات والمخادعات والتخيلات الباطلة على أخذ أموال الناس بأي طريق قدروا عليها لا يراقبون الله المطلع عليهم، ولا يخشون سطوة عقابه ومقته مع أنه تعالى عليهم بالمرصاد {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} سورة غافر الآية ١٩. {يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى} سورة طه الآية ٧. {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ} سورة الملك الآية ١٤. ولو تأمل الغشاش الخائن الآكل أموال الناس بالباطل ما جاء في إثم ذلك في القرآن والسنة لربما انزجر عن ذلك أو عن بعضه، ولو لم يكن من عقابه إلا قوله صلى الله عليه وسلم: (إن العبد ليقذف اللقمة من حرام في جوفه ما يتقبل منه عمل أربعين يوماً، وأيما عبد نبت لحمه من حرام فالنار أولى به) وقوله صلى الله عليه وسلم: (إنه لا دين لمن لا أمانة له) .] الزواجر عن اقتراف الكبائر ١/٥٤٧.

وقد ذكر بعض أهل العلم مضار الغش وهي

١. الغش طريق موصل إلى النار. ٢. الغش دليل على دناءة النفس وخبثها، فلا يفعله إلا كل دنيء نفسٍ هانت عليه نفسه فأوردها مورد الهلاك والعطب. ٣. الغش يبعد عن الله وعن الناس. ٤. الغش طريق لحرمان إجابة الدعاء. ٥. الغش طريق لحرمان البركة في المال والعمر. ٦. الغش دليل على نقص الإيمان.

وخلاصة الأمر أن ما يقوم به اللحامون المذكورون في السؤال من بيع اللحوم المجمدة على أنها لحوم طازجة حرام قطعاً وأنه من الغش وهو كبيرة من كبائر الذنوب والمال الذي يأخذونه مال حرام وكسب خبيث والله سبحانه وتعالى لا يبارك فيه والواجب عليهم أن يتوبوا من هذه المعصية الكبيرة وأن يصدقوا في تعاملهم مع الناس فإن الله سبحانه وتعالى لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء.

<<  <  ج: ص:  >  >>