للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[٨١ - عقد المقاولة]

يقول السائل: إنه يعمل مقاولاً في مجال البناء والطرق وإنه يقوم أحياناً بإعطاء بعض الأعمال التي يحصل عليها لمقاول آخر فما حكم ذلك؟ وما الحكم فيما لم يتمكن من الوفاء بالمدة المتفق عليها في العقد بسبب فرض نظام حظر التجول مع العلم أنه قد اشترط عليه ذلك ويوجد في العقد شرط جزائي يطبق في حالة الإخلال؟ الجواب: عقد المقاولة من العقود المستحدثة ولم يعرفه الفقهاء المتقدمون وإنما تحدث عنه القانونيون والفقهاء المعاصرون. والمقاولة عبارة عن عقد يتعهد المقاول بمقتضاه أن يصنع شيئاً أو يؤدي عملاً لقاء أجر يتعهد به الطرف الآخر ويمكن تخريج عقد المقاولة على عقد الاستصناع المعروف في الفقه الإسلامي أو على عقد الإجارة وكل منهما عقد صحيح شرعاً وقد قامت الأدلة الشرعية على اعتبارهما. انظر الوسيط في شرح القانون المدني ٧/٥.

وينبغي أن يعلم أنه يجوز شرعاً استحداث عقود جديدة لم تكن معروفة عند الفقهاء المتقدمين إذا كانت ضمن القواعد العامة للفقه الإسلامي [وهذه المسألة تسمى بمدى الحرية التعاقدية في الفقه الإسلامي، وقد اختلف فيها الفقهاء، فذهب جمهور الفقهاء إلى أن الأصل في إنشاء العقود الإباحة وأن الناس أحرار في إنشاء عقود جديدة ما لم تكن مخالفة لنصوص الشرع الشريف ... وقد دافع شيخ الإسلام ابن تيمية بشدة عن مذهب القائلين بالإباحة وقد استدل الجمهور بالكتاب والسنة والمعقول. أما الكتاب فقوله تعالى: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) سورة المائدة الآية ١. وقوله تعالى: (وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا) سورة الإسراء الآية ٣٤.

وغير ذلك من الآيات الدالة على وجوب الوفاء بالعقود يقول ابن تيمية: [فقد أمر الله سبحانه وتعالى بالوفاء بالعقود وهذا عام. وكذلك أمر بالوفاء بعهد الله وبالعهد وقد دخل في ذلك ما عقده المرء على نفسه بدليل قوله تعالى: (وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لَا يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْئُولًا) سورة الأحزاب الآية ١٥. فدل على أن عهد الله يدخل فيه ما عقده المرء على نفسه وإن لم يكن الله قد أمر بنفس ذلك المعهود عليه قبل العهد كالنذر والبيع ... وقال سبحانه: (وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ) سورة النساء الآية ١. قال المفسرون (تساءلون به) تتعاهدون وتتعاقدون وذلك لأن كل واحد من المتعاقدي يطلب من الآخر ما أوجبه العقد من فعل أو ترك أو مال أو نفع أو نحو ذلك وجمع سبحانه في هذه الآية وسائر السورة أحكام الأسباب التي بين بني آدم المخلوقة كالرحم والمكسوبة كالعقود التي يدخل فيها الصهر ...] مجموع الفتاوى ٢٩/١٣٨-١٣٩.

وكذلك تدل مجموعة كبيرة من الأحاديث الشريفة على وجوب الوفاء بالعقود والوعود والعهود وأن مخالفة الوعد من علامات النفاق إضافة إلى أحاديث خاصة في الموضوع منها قول النبي صلى الله عليه وسلم: (الصلح جائز بين المسلمين إلا صلحاً حرم حلالاً أو أحل حراماً والمسلمون على شروطهم إلا شرطاً حرم حلالاً أو أحل حراماً) رواه الترمذي وقال: حسن صحيح ورواه البخاري تعليقاً بصيغة الجزم لكنه بدون الاستثناء ورواه كذلك الحاكم وأبو داود عن أبي هريرة بلفظ (المسلمون عند شروطهم) أي بدون الاستثناء.

وآثار الصحابة تشهد على ذلك بل يقول ابن تيمية: [إن الوفاء بها أي بالالتزامات التي التزم بها الإنسان من الواجبات التي اتفقت عليها الملل بل العقلاء جميعاً] مجموع الفتاوى ٢٩/٥١٦ والقواعد النورانية ص٥٣.

ثم إن أساس العقود هو التراضي وموجبها هو ما أوجبه العاقدان على أنفسهما] عقد الاستصناع د. علي محي الدين القرة داغي مجلة مجمع الفقه الإسلامي ٧/٢/٣٥٠-٣٥٢.

فعقد المقاولة من العقود المعتبرة شرعاً ويصح التعامل به إذا توفرت فيه شروط الانعقاد فلا بد من توافق الإيجاب والقبول ليتم التراضي بين صاحب العمل والمقاول على ماهية العمل الذي سيؤديه المقاول لصاحب العمل والأجر الذي يتقاضاه المقاول. ولا بد من بيان ذلك بياناً واضحاً قاطعاً للنزاع والخلاف. ومن المعروف أنه في المقاولات الكبيرة يكون هنالك ملحقات للعقد تتعلق بالمواصفات والشروط التي يجب أن يلتزم بها المقاول فهذه تكون تابعة للعقد. انظر الوسيط في شرح القانون المدني ٧/٣٦-٣٨.

إذا تقرر هذا فإنه يجوز للمقاول أن يتفق مع مقاول آخر على تنفيذ بعض الأعمال ضمن العقد الأساسي وهذا يسمى المقاولة من الباطن بشرط أن لا يكون هناك نص في العقد يمنع ذلك فإذا شرط صاحب العمل على المقاول أن ينفذ العمل بنفسه فلا يجوز للمقاول أن يتعاقد مع آخر لتنفيذ العمل كله أو بعضه وأما إذا لم يكن هذا الشرط موجوداً فحينئذ يجوز للمقاول أن يتعاقد مع آخر لتنفيذ العمل كله أو بعضه ويشترط أن يكون هنالك انفصال تام بين العقدين. فتاوى الاستصناع والمقاولات ص٦٥.

وأما بالنسبة للإخلال بالمدة المتفق عليها في عقد المقاولة فإن الأصل أن يلتزم المسلم بما قبله من شروط لما سبق في الحديث (المسلمون عند شروطهم) وفي الغالب يكون هنالك في عقود المقاولة شرط جزائي لضبط التزام المقاول بتسليم العمل في مدة معينة فإذا أخل المقاول بهذا الشرط فإنه يتحمل نتيجة ذلك.

هذا إذا كانت الظروف والأوضاع طبيعية وأما إذا وقع الخلل بسبب أمور خارجة عن إرادة المقاول كظروف فرض نظام حظر التجول مثلاً فأرى أن لا يطبق عليه الشرط الجزائي لأنه لم يقصر من تلقاء نفسه بل فرضت عليه ظروف قاهرة وخارجة عن إرادته ولا بد من التراحم بين المتعاقدين وأن تقدر تلك الظروف القاهرة بتقدير صحيح فالشرط الجزائي شرط صحيح معتبر شرعاً ما لم يكن هناك عذر في الإخلال بالالتزام الموجب له شرعاً ولا شك أن الظروف التي ذكرها السائل تعتبر عذراً شرعياً لإخلاله بالمدة المشروطة في العقد.

وقد بحث مجمع الفقه الإسلامي عقد المقاولة في دورته الرابعة عشر وجاء في قراره ما يلي: [بعد اطلاعه على البحوث الواردة إلى المجمع بخصوص موضوع عقد المقاولة والتعمير: حقيقته، وتكييفه وصوره وبعد استماعه إلى المناقشات التي دارت حوله ومراعاة أدلة الشرع وقواعده ومقاصده ورعاية للمصالح العامة في العقود والتصرفات. ونظراً لأهمية عقد المقاولة ودوره الكبير في تنشيط الصناعة وفتح مجالات واسعة للتمويل والنهوض بالاقتصاد الإسلامي قرر ما يلي:

١. عقد المقاولة – عقد يتعهد أحد طرفيه بمقتضاه بأن يصنع شيئاً أو يؤدي عملاً مقابل بدل يتعهد به الطرف الآخر – وهو عقد جائز سواء قدم المقاول العمل والمادة وهو المسمى عند الفقهاء بالاستصناع أو قدم المقاول العمل وهو المسمى عند الفقهاء بالإجارة على العمل.

٢. إذا قدم المقاول المادة والعمل فينطبق على العقد قرار المجمع رقم ٣٦٥/٧ بشأن موضوع الاستصناع.

٣. إذا قدم المقاول العمل فقط فيجب أن يكون الأجر معلوماً.

٤. يجوز الاتفاق على تحديد الثمن بالطرق الآتية:

أ. الاتفاق على ثمن بمبلغ إجمالي على أساس وثائق العطاءات والمخططات والمواصفات المحددة بدقة.

ب. الاتفاق على تحديد الثمن على أساس وحدة قياسية يحدد فيها ثمن الوحدة والكمية وطبقاً للرسومات والتصميمات المتفق عليها.

ج. الاتفاق على تحديد الثمن على أساس سعر التكلفة الحقيقية، ونسبة ربح مئوية، ويلزم في هذه الحالة أن يقدم المقاول بيانات وقوائم مالية دقيقة ومفصلة وبمواصفات محددة بالتكاليف يرفعها للجهة المحددة في العقد ويستحق حينئذ التكلفة بالإضافة للنسبة المتفق عليها.

٥. يجوز أن يتضمن عقد المقاولة شرطاً جزائياً، بمقتضى ما اتفق عليه العاقدان ما لم يكن هناك ظروف قاهرة. ويطبق في هذه الحالة قرار المجمع في الشرط الجزائي رقم ٣١٠٩/١٢.

٦. يجوز في عقد المقاولة تأجيل الثمن كله أو تقسيطه إلى أقساط لآجال معلومة أو حسب مراحل إنجاز العمل المتفق عليها.

٧. يجوز الاتفاق على التعديلات والإضافات.

٨. إذا أجرى المقاول تعديلات أو إضافات بإذن رب العمل دون الاتفاق على أجرة فللمقاول عوض مثله.

٩. إذا أجرى المقاول تعديلات أو إضافات دون اتفاق عليها فلا يستحق عوضاً زائداً على المسمى ولا يستحق عوضاً عن التعديلات أو الإضافات.

١٠. يضمن المقاول إذا تعدى أو فرط أو خالف شروط العقد كما يضمن العيوب والأخطاء التي يتسبب فيها. ولا يضمن ما كان بسبب من رب العمل أو بقوة قاهرة.

١١. إذا شرط رب العمل على المقاول أن يقوم بالعمل بنفسه فلا يجوز له أن يتفق مع مقاول آخر من الباطن

١٢. إذا لم يشرط رب العمل على المقاول أن يقوم بالعمل بنفسه جاز به أن يتفق مع مقاول من الباطن ما لم يكن العمل بعينه مقصوداً أداؤه من المقاول نفسه لوصف مميز فيه مما يختلف باختلاف الأجراء.

١٣. المقاول مسئول عن عمل مقاوليه من الباطن، وتظل مسؤولية المقاول الأصلية تجاه رب العمل قائمة وفق العقد.

١٤. لا يقبل في عقد المقاولة اشتراط نفي الضمان عن المقاول.

١٥. يجوز اشتراط الضمان لفترة محددة.

١٦. لا يقبل في عقد المقاولة اشتراط البراءة من العيوب طيلة فترة الضمان المنصوص عليها في العقد] قرارات مجمع الفقه الإسلامي في دورته الرابعة عشرة.

وخلاصة الأمر أن عقد المقاولة عقد معتبر شرعاً ويجوز للمقاول أن يتفق مع مقاول آخر من الباطن بموافقة صاحب العمل ويجب الالتزام بالشرط الجزائي ما لم تكن هناك ظروف قاهرة خارجة عن إرادة المقاول.

<<  <  ج: ص:  >  >>