للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[١٥٩ - الوفاء بالوعد]

يقول السائل: ما حكم الوفاء بالوعد في الشريعة الإسلامية؟

الجواب: إن كثيراً من النصوص من كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم أمرت بالوفاء بالوعد وحثت على ذلك وذمت من لم يف بوعده فمن هذه النصوص قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) سورة المائدة الآية ١.

فهذه الآية الكريمة تأمر بالوفاء بالعقود والوعد داخل في ذلك.

قال الزجاج: [المعنى أوفوا بعقد الله عليكم وبعقدكم مع بعضكم مع بعض] نقله عنه القرطبي في تفسيره ٦/٣٣.

وقال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ) سورة الصف الآية ٣.

وهذه الآية من أشد الآيات في وجوب الوفاء بالوعد لأنها تضمنت الذم الشديد لمن لم يف بما يعد. قال القرافي: [والوعد إذا أخلف قول لم يفعل فيلزم أن يكون كذباً وأن يحرم إخلاف الوعد مطلقاً] الفروق ٤/٢٠.

وقال تعالى: (وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ) سورة النحل الآية ٩١.

وقال تعالى: (وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا) سورة الإسراء الآية ٣٤.

كما أن الله سبحانه وتعالى ذم بعض المنافقين الذين لم يفوا بوعودهم كما في قوله تعالى: (وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْءَاتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ فَلَمَّاءَاتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ) سورة التوبة الآيات ٧٥-٧٧.

كما أن الله سبحانه وتعالى مدح الموفين بعهودهم ووعودهم وأثنى عليهم كما في قول الله تعالى: (وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا) سورة البقرة الآية ١٧٧.

وقال تعالى: (وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى) سورة النجم الآية ٣٧.

ومدح الله سبحانه وتعالى إسماعيل بقوله: (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا) سورة مريم الآية ٥٤.

وورد في السنة النبوية ما يدل على وجوب الوفاء بالوعد فمن ذلك ما جاء في الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا أؤتم خان، وإذا وعد أخلف) رواه البخاري ومسلم.

وجاء في رواية أخرى عند مسلم: (من علامات المنافق ثلاث ... ) .

وفي رواية ثالثة عند مسلم أيضاً: (آية المنافق ثلاث ... وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم) .

وجاء في حديث آخر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أربع من كن فيه كان منافقاً خالصاً ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: إذا أؤتمن خان، وإذا حدث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر) رواه البخاري ومسلم.

وجاء في الحديث عن عبد الله بن عامر ? قال: (دعتني أمي يوماً ورسول الله صلى الله عليه وسلم قاعد في بيتها فقالت: تعال أعطك. فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما أردت أن تعطيه؟ فقالت: أعطيه تمراً. فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم أما إنك لو لم تعطه شيئاً كتبت عليك كذبة) رواه أبو داود وحسّنه الشيخ الألباني في صحيح سنن أبي داود ٣/٩٤٣، وفي السلسة الصحيحة ٢/٣٨٤.

وجاء في الحديث عن عائشة رضي الله عنها: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يستعيذ في صلاته كثيراً من المأثم والمغرم - الإثم والدين - فقيل له: يا رسول الله، ما أكثر ما تستعيذ من المغرم؟ فقال: إن الرجل إذا غرم - أي استدان - حدث فكذب ووعد فأخلف) رواه البخاري.

وبعد عرض هذه النصوص القرآنية والأحاديث النبوية أقول إن أهل العلم اختلفوا في حكم الوفاء بالوعد فمنهم من قال بأنه مندوب ومنهم من قال بأنه واجب ومنهم من قال بالتفصيل ففي حالات يجب الوفاء وفي أخرى يندب.

والذي أميل إليه وأختاره وجوب الوفاء بالوعد ديانة وقضاء وهذا قول جماعة من أهل العلم منهم جماعة من فقهاء السلف كالفقيه المعروف ابن شبرمة والحسن البصري وعمر بن عبد العزيز والقاضي سعيد بن الأشوع وإسحاق بن راهويه وغيرهم.

قال الإمام البخاري في صحيحه: [باب من أمر بإنجاز الوعد وفعله الحسن - (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ) - وقضى ابن الاشوع بالوعد وذكر ذلك عن سمرة.

وقال المسور بن مخرمة سمعت النبي صلى الله عليه وسلم وذكر صهراً له فقال: وعدني فوفاني. قال أبو عبد الله - أي البخاري - رأيت إسحاق بن إبراهيم يحتج بحديث ابن أشوع] صحيح البخاري مع شرحه فتح الباري ٦/٢١٧-٢١٨.

ثم ساق البخاري أربعة أحاديث في الوفاء بالوعد منها قصة أبي سفيان مع هرقل وفيه: (سألتك ماذا يأمركم؟ فزعمت أنه أمركم بالصلاة والصدق والعفاف والوفاء بالعهد وأداء الأمانة. قال: وهذه صفة نبي) .

ثم ذكر حديث أبي هريرة السابق في علامات المنافق ثم ذكر حديث جابر بن عبد الله ? قال: (لما مات النبي صلى الله عليه وسلم جاء أبا بكر مالٌ من قبل العلاء بن الحضرمي. فقال أبو بكر: من كان له على النبي صلى الله عليه وسلم دين أو كانت له قبله عدة فليأتنا. قال جابر: فقلت: وعدني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعطيني هكذا وهكذا وهكذا فبسط يديه ثلاث مرات. قال جابر: فعدَّ في يدي خمسمئة ثم خمسمئة ثم خمسمئة) .

ثم ذكر حديث ابن عباس في قصة وفاء موسى عليه السلام بوعده لوالد الفتاتين.

فهذه الأدلة وغيرها تدل على وجوب الوفاء بالوعد.

وقد ذكر الحافظ السخاوي تفصيلاً أكثر من هذا في كتابه القيم " التماس السعد في الوفاء بالوعد " وبين قوة هذا القول فقال في مقدمة كتابه: [وبعد، فهذا تصنيف لطيف سميته التماس السعد في الوفاء بالوعد، جمعت فيه ما تيسر لي الوقوف عليه من الأحاديث والآثار ومناسبات الأشعار وافتتحته بآية في المعنى مع طرف من تفسيرها الأسنى ليتوافق دليل السنة والكتاب ويظهر قوة من جنح في ذلك للوجوب من الأصحاب] التماس السعد في الوفاء بالوعد ص ٣٠.

ومن لطيف ما ذكره الحافظ السخاوي: [أن مطرفاً بن عبد الله الشخير وكان من فضلاء السلف سمع رجلاً يقول: أستغفر الله وأتوب إليه. فأخذ بذراعه وقال: لعلك لا تفعل من وعد فقد أوجب] .

وذكر أيضاً: [أنه قيل لبعض الصالحين وقد أصبح صائماً تطوعاً: أفطر فإن المتطوع أمير نفسه. فقال: إني لأستحي من ربي عز وجل أن أعده وعداً وهو أن أصوم ولا أوفي له بوعدي] التماس السعد ص ٥٧-٥٨.

ومن كلمات السلف: [الوعد سحابة والإنجاز مطر وأحسن المواعيد ما صدقه الإمطار] التماس السعد ص ٩٦.

وأخيراً ينبغي أن يقال إن الأخذ بقول من أوجب الوفاء بالوعد يضبط معاملات الناس وخاصة في الأمور المالية وقد أخذت كثير من المصارف الإسلامية التي تتعامل وفق الأحكام الشرعية بمبدأ الإلزام بالوعد لما في ذلك من ضبط للمعاملات المالية.

?????

<<  <  ج: ص:  >  >>