للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[١٩٥ - حكم جائزة السداد المبكر في البنوك الإسلامية]

يقول السائل: اشتريت سيارة بالمرابحة من أحد البنوك الإسلامية على أقساط لمدة سنتين، وبعد مرور السنة الأولى توفر لديَّ بقية ثمن السيارة، فطلبت من البنك أن أسدد بقية الأقساط على أن يخصم لي أرباح الأقساط الباقية، ولكن البنك رفض ذلك، فما الحكم في ذلك، وهل أرباح الأقساط التي عَجلتُ سدادها من حقي، أفيدونا؟

الجواب: هذه المسألة تسمى عند الفقهاء مسألة " ضع وتعجل " وهي مسألة خلافية بينهم، فذهب جمهور الفقهاء إلى منعها، وأجازها آخرون، والجواز منقول عن ابن عباس رضي الله عنهما وبه قال إبراهيم النخعي وابن سيرين وأبو ثور، وهو راوية عن الإمام أحمد، ومنقول عن الإمام الشافعي، وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم وابن عابدين الحنفي، انظر المبدع ٤/٢٨٠، الاختيارات الفقهية لشيخ الإسلام ابن تيمية ص١٣٤، إعلام الموقعين لابن القيم ٣/٣٥٩ حاشية ابن عابدين ٥/١٦٠. وقال به جماعة من العلماء المعاصرين وعددٌ من هيئات الرقابة الشرعية في البنوك الإسلامية. قال الشيخ ابن قدامة المقدسي: [إذا كان عليه دين مؤجل فقال لغريمه: ضع عني بعضه وأعجل لك بقيته لم يجز، كرهه زيد بن ثابت وابن عمر والمقداد وسعيد بن المسيب وسالم والحسن وحماد والحكم والشافعي ومالك والثوري وهشيم وابن علية وإسحاق وأبو حنيفة، وقال المقداد لرجلين فعلا ذلك كلاكما قد آذن بحرب من الله ورسوله، وروي عن ابن عباس: أنه لم يرَ به بأساً، وروي ذلك عن النخعي وأبي ثور، لأنه آخذٌ لبعض حقه تاركٌ لبعضه فجاز كما لو كان الدين حالّاً] المغني ٤/٣٩. وقال العلامة ابن القيم بعد أن ذكر القول بمنع " ضع وتعجل " قال: [والقول الثاني أنه يجوز وهو قول ابن عباس وإحدى الروايتين عن الإمام أحمد حكاها ابن أبي موسى وغيره واختاره شيخنا] أي شيخ الإسلام ابن تيمية، إعلام الموقعين ٣/٣٥٩. وقد احتج هذا الفريق من أهل العلم بما ورد في الحديث عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (لمَّا أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يخرج بني النضير قالوا: يا رسول الله إنك أمرت بإخراجنا ولنا على الناس ديون لم تحل، فقال صلى الله عليه وسلم: ضعوا وتعجلوا) رواه الحاكم وقال هذا حديث صحيح الإسناد. المستدرك ٢/٣٦٢. وأخرجه الطبراني في الكبير وفيه مسلم بن خالد الزنجي وهو ضعيف وقد وثق كما قال الهيثمي في مجمع الزوائد ٤/١٣٠، ورواه البيهقي في السنن الكبرى ٦/٢٨، وقال إنه ضعيف لضعف مسلم بن خالد الزنجي. وروى البيهقي بإسناده: [أن ابن عباس كان لا يرى بأساً أن يقول أعجل لك وتضع عني] سنن البيهقي ٦/٢٨. وتضعيف مسلم بن خالد الزنجي غير مسلَّم، قال الذهبي عنه: [الإمام فقيه مكة] ثم ذكر اختلاف العلماء في توثيقه وتجريحه فقال: [قال يحيى بن معين ليس به بأس، وقال البخاري: منكر الحديث، وقال أبو حاتم: لا يحتج به، وقال ابن عدي: حسن الحديث أرجو أنه لا بأس به، وقال أبو داود: ضعيف. قلت - أي الذهبي -: بعض النقاد يرقي حديث مسلم إلى درجة الحسن] سير أعلام النبلاء ٨/١٧٦-١٧٧. وسبق كلام الهيثمي أن مسلم بن خالد الزنجي قد وثق وهو شيخ الإمام الشافعي وقد روى عنه الإمام الشافعي واحتج به! قال العلامة ابن القيم بعد أن ساق الحديث: [قلت هو على شرط السنن وقد ضعفه البيهقي وإسناده ثقات وإنما ضعف بمسلم بن خالد الزنجي وهو ثقة فقيه روى عنه الشافعي واحتج به] إغاثة اللهفان ٢/١٣. وبهذا يظهر لنا أن الحديث صالح للاحتجاج به. ولو سلمنا ضعف الحديث فإن النظر يفيد جواز مسألة ضع وتعجل وأنها لا علاقة لها بالربا، بل تعتبر من قبيل الصلح وليس فيها مخالفة لقواعد الشرع وأصوله بل حكمة الشرع ومصالح المكلفين تقتضي أن المدين والدائن قد اتفقا وتراضيا على أن يتنازل الأول عن الأجل والدائن عن بعض حقه، فهذا من قبيل الصلح، والصلح جائزٌ بين المسلمين إلا صلحاً أحل حراماً وحرم حلالاً. انظر الربا والمعاملات المصرفية ص ٢٣٧. ومن المعلوم أنه يجوز شرعاً الصلح بين الناس بإسقاط صاحب الحق كلَّ حقه أو بعضَه، فقد ثبت في الحديث الصحيح عن كعب بن مالك رضي الله عنه، أنه كان له على عبد الله ابن أبي حدرد الأسلمي مالٌ، فلقيه فلزمه حتى ارتفعت أصواتهما، فمرَّ بهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (يا كعب، فأشار بيده كأنه يقول النصف، فأخذ نصف ماله عليه وترك نصفاً) رواه الإمام البخاري. وفي رواية للبخاري أيضاً عن كعب أنه تقاضى ابن أبي حدرد ديناً كان له عليه في المسجد، فارتفعت أصواتهما حتى سمعهما رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيته، فخرج إليهما حتى كشف سجف حجرته - أي ستر البيت - فنادى: (يا كعب قال: لبيك يا رسول الله، فقال: ضع من دينك هذا، وأومأ إليه، أي الشطر، قال: لقد فعلت، قال: قم فاقضه) . وفي هذا الحديث دلالة على أنه يجوز لصاحب الحق أن يسقط شيئاً من حقه حيث أشار الرسول صلى الله عليه وسلم لكعب كي يسقط نصف دينه عن عبد الله بن أبي حدرد، ثم أمر الرسول صلى الله عليه وسلم عبد الله بن أبي حدرد أن يسدد الشطر الثاني من الدين لكعب بن مالك. وقد وأجاب العلامة ابن القيم عن دعوى أن مسألة ضع وتعجل من باب الربا بقوله: [لأن هذا عكس الربا فإن الربا يتضمن الزيادة في أحد العوضين في مقابلة الأجل، وهذا يتضمن براءة ذمته من بعض العوض في مقابلة سقوط الأجل، فسقط بعض العوض في مقابلة سقوط بعض الأجل، فانتفع به كل واحدٌ منهما، ولم يكن هنا رباً، لا حقيقةً ولا لغةً ولا عرفاً، فإن الربا الزيادة وهي منتفيةٌ ههنا، والذين حرموا ذلك إنما قاسوه على الربا، ولا يخفى الفرق الواضح بين قوله: إما أن تربي وإما أن تقضي، وبين قوله: عجل لي وأهب لك مائة. فأين أحدهما من الآخر؟ فلا نص في تحريم ذلك ولا إجماع ولا قياس صحيح] إعلام الموقعين ٣/٣٥٩. وقال العلامة ابن القيم أيضاً: [قالوا: وهذا ضد الربا فإن ذلك يتضمن الزيادة في الأجل والدين وذلك إضرار محض بالغريم، ومسألتنا تتضمن براءة ذمة الغريم من الدين وانتفاع صاحبه بما يتعجله، فكلاهما حصل له الانتفاع من غير ضرر، بخلاف الربا المجمع عليه، فإن ضرره لاحق بالمدين ونفعه مختص برب الدين، فهذا (ليس) من الربا صورة ومعنى] إغاثة اللهفان ٢/١٣. وقد أجاز مجمع الفقه الإسلامي مسألة "ضع وتعجل" فقد جاء في قرار المجمع ما يلي: [الحطيطة من الدين المؤجل لأجل تعجيله سواء أكانت بطلب الدائن أو المدين " ضع وتعجل " جائزة شرعاً لا تدخل في الربا المحرم إذا لم تكن بناءً على اتفاق مسبق، وما دامت العلاقة بين الدائن والمدين ثنائية، فإذا دخل طرف ثالث لم تجز، لأنها تأخذ عندئذ حكم حسم الأوراق التجارية] مجلة مجمع الفقه الإسلامي ٧/٢/٢١٨. وأجازت اللجنة الدائمة للإفتاء السعودية مسألة ضع وتعجل فقد ورد في فتاوى اللجنة الدائمة: [هذه المسألة فيها خلاف بين أهل العلم، والصحيح من قوليهم جواز الوضع والتعجيل وهو رواية عن الإمام أحمد واختيار الشيخين ابن تيمية وابن القيم ومنسوب إلى ابن عباس رضي الله عنهما ... اهـ] فتاوى اللجنة ١٣/١٦٨. وقد عملت كثيرٌ من البنوك الإسلامية بقول من يجيز مسألة "ضع وتعجل" بناءً على فتوى من هيئات الرقابة الشرعية فيها، وتسمى بجائزة السداد المبكر، ولكن ضمن ضوابط معينة وهي:

١- أن لا ينص في العقد على ذلك، وألا يكون هنالك ارتباط شفوي عند العقد أو بعده وإنما يكون بإرادة منفردة من البنك أي دون شرط ملفوظ أو ملحوظ.

٢- أن تكون إعادة الأرباح أو جزءٍ منها من قِبل البنك على سبيل التبرع دون إلزام.

٣- أن يتم وضع سياسة عامة تطبق في كل حالات السداد المبكر دون اتفاق مع العملاء على ذلك ولا بأس إن علم العملاء مسبقاً بذلك بشرط أن لا يكونوا طرفاً فيها ولا يطلب منهم الموافقة عليها.

٤- إذا كان هنالك حالات خاصة لتحصيل ديون البنك قبل موعدها من العملاء ويرفض العملاء السداد المبكر إلا إذا حصلوا على حسم معقول فيجوز الاتفاق مع العميل على السداد المبكر وذلك بشكل فردي.

٥- يجب أن يكون التسديد لجميع الدين ولا يصح أن يكون لجزءٍ منه.

وخلاصة الأمر أنه يجوز شرعاً إسقاط بعض حق الدائن مقابل تعجيل سداد الدَّين، وهي المسألة المعروفة عند الفقهاء بمسألة " ضع وتعجل" بشرط أن لا يكون هنالك شرطٌ سابق، ولا علاقة لهذه المسألة بالربا على الصحيح من أقوال العلماء، بل هي من باب الصلح، وصاحب الحق يتبرع ببعض حقه، وليس ملزماً بذلك، فلهذا فإن إسقاط بعض الدين عند تعجيل السداد أمرٌ غير لازم للبنوك الإسلامية، وليس ذلك حقاً من حقوق المشتري بالمرابحة، وإنما هو تبرع من البنك الإسلامي.

<<  <  ج: ص:  >  >>