للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[٦ - الاستثناء في اليمين]

يقول السائل: ما صحة أن الإنسان إذا حلف يميناً وقال إن شاء الله ثم حنث بيمنه فلا كفارة عليه أفيدونا؟ الجواب: هذه المسألة تسمى مسألة الاستثناء في اليمين عند الفقهاء والمقصود بالاستثناء في اليمين أن يذكر الحالف لفظ إن شاء الله بعد الحلف أو قبله لا فرق في ذلك. قال شيخ الإسلام ابن تيمية [الاشتراط بالمشيئة: هو استثناء في كلام النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة والفقهاء وليس استثناء في العرف النحوي] انظر القواعد والفوائد الأصولية لابن اللحام الحنبلي ص ٣٢٦.

والاستثناء يؤثر في اليمين والنذر والظهار ونحوها في قول أكثر أهل العلم. والاستثناء مشروع في اليمين ويدل على مشروعيته، ما ورد في الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من حلف فقال إن شاء الله لم يحنث) . رواه أحمد والترمذي وفي رواية أخرى (من حلف فقال إن شاء الله فقد استثنى) .

وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من حلف فاستثنى فإن شاء مضى وإن شاء ترك غير حنث) رواه النسائي

وفي رواية عند أبي داود عن ابن عمر رضي الله عنهما يبلغ به النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من حلف على يمين فقال إن شاء الله فقد استثنى) .

وفي رواية أخرى عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من حلف على يمين فقال إن شاء الله فلا حنث عليه) . والحديث برواياته الختلفة حديث صحيح كما بينه الشيخ الألباني في إرواء الغليل ٨/١٩٦ فما بعدها، وفي صحيح سنن أبي داود ٢/٦٢٩.

وعن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (والله لأغزون قريشًا ثم قال: إن شاء الله ثم قال: والله لأغزون قريشاً ثم قال: إن شاء الله ثم قال: والله لأغزون قريشاً ثم سكت ثم قال: إن شاء الله ثم لم يغزهم) . رواه أبو داود وهو حديث صحيح كما بينه الشيخ الألباني في صحيح سنن أبي داود ٢/٦٣٣. وغير ذلك من الأحاديث.

وقول إن شاء الله بعد الحلف أو قبله له تأثير في اليمين فهو يحصن الحالف من الإثم ويعفيه من الكفارة ودل على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم في حديث أبي هريرة السابق (لم يحنث) وقوله صلى الله عليه وسلم في حديث ابن عمر رضي الله عنهما (فلا حنث عليه) .

قال الشوكاني: [قوله: (لم يحنث) فيه دليل على أن التقييد بمشيئة الله مانع من انعقاد اليمين أو يحل انعقادها وقد ذهب إلى ذلك الجمهور وادعى عليه ابن العربي الإجماع قال أجمع المسلمون على أن قوله إن شاء الله يمنع انعقاد اليمين بشرط كونه متصلاً] نيل الأوطار٨/٢٤٨

وقد ذكر الفقهاء عدة شروط حتى يكون الاستثناء مؤثراً في اليمين أولها: أن يجري لفظ إن شاء الله على اللسان ولا تكفي نية الاستثناء لأن الأصل في باب الأيمان والنذور أنها تبنى على اللفظ ولا تكفي النية بالقلب ويدل على ذلك قوله تعالى: { ... فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا} سورة مريم الآية ٢٦.

ويدل على ذلك أيضاً ما ورد في الحديث السابق: (من حلف فقال إن شاء الله) والقول يكون باللسان لا بالقلب.

قال الشيخ ابن قدامة المقدسي: [ويشترط أن يستثني بلسانه ولا ينفعه الاستثناء بالقلب في قول عامة أهل العلم منهم الحسن والنخعي ومالك والثوري والأوزاعي والليث والشافعي وإسحاق وأبو ثور وأبو حنيفة وابن المنذر ولا نعلم لهم مخالفاً لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من حلف فقال: إن شاء الله) والقول هو النطق ولأن اليمين لا تنعقد بالنية فكذلك الاستثناء] المغني ٩/٥٢٣

وثانيها: أن لا يكون هنالك فاصلٌ زمني بين اليمين وقول إن شاء الله بمعنى أن يكون بينهما اتصال وقتي وهذا على الصحيح من أقوال العلماء خلافاً لابن عباس رضي الله عنهما حيث أجاز الاستثناء المنفصل قال الشيخ ابن قدامة المقدسي: [فإنه يشترط أن يكون الاستثناء متصلاً باليمين , بحيث لا يفصل بينهما كلام أجنبي ولا يسكت بينهما سكوتاً يمكنه الكلام فيه فأما السكوت لانقطاع نفسه أو صوته , أو عيٍ أو عارضٍ من عطسة أو شيء غيرها فلا يمنع صحة الاستثناء وثبوت حكمه , وبهذا قال مالك والشافعي والثوري وأبو عبيد وإسحاق وأصحاب الرأي لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من حلف فاستثنى) وهذا يقتضي كونه عقيبه] المغني ٩/٥٢٢ ومن المعلوم أن الفاء تفيد الترتيب والتعقيب في لغة العرب.

وثالثها: أن يقصد الحالف قول إن شاء الله وأما إذا كانت هذه العبارة تجري على لسان الحالف بدون قصد فلا أثر لها حينئذ.

ورابعها: أن الاستثناء لا يصح في الأيمان المتعلقة بحقوق العباد لأن ذلك يؤدي إلى ضياع حقوق العباد فلا يصح لمن حلف يميناً في حق من حقوق العباد أن يستثني وبالتالي يعفي نفسه من الصدق في يمينه لأن اليمين المتعلقة بحقوق العباد يجب أن تكون حسب نية طالب اليمين من خصمٍ أو قاضٍ ونحوهما.

قال الشيخ ابن قدامة المقدسي: [الحال الثاني أن يكون الحالف ظالماً كالذي يستحلفه الحاكم على حق عنده , فهذا ينصرف يمينه إلى ظاهر اللفظ الذي عناه المستحلف ولا ينفع الحالف تأويله وبهذا قال الشافعي ولا نعلم فيه مخالفاً فإن أبا هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يمينك على ما يصدقك به صاحبك) رواه مسلم وأبو داود وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اليمين على نية المستحلف) رواه مسلم , وقالت عائشة رضي الله عنها: (اليمين على ما وقع للمحلوف له) ولأنه لو ساغ التأويل لبطل المعنى المبتغى باليمين إذ مقصودها تخويف الحالف ليرتدع عن الجحود , خوفاً من عاقبة اليمين الكاذبة فمتى ساغ التأويل له انتفى ذلك , وصار التأويل وسيلة إلى جحد الحقوق ولا نعلم في هذا خلافاً] المغني ٩/٥٢٢

وخلاصة الأمر أن الحالف إذا استخدم الاستثناء في يمينه بالشروط التي ذكرتها فإن ذلك يعفيه من الكفارة ولا إثم عليه إن شاء الله تعالى.

<<  <  ج: ص:  >  >>