للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

[١ - زنا المحارم من أعظم الكبائر]

يقول السائل: زنا رجل بإحدى محارمه وحملت ويريدان إجهاض الحمل خشية الفضيحة وخشية تعرض الفتاة للقتل، فما الحكم الشرعي في ذلك، أفيدونا؟

الجواب: لا شك أن الزنا من كبائر الذنوب، وقد وردت في تحريمه والترهيب منه نصوص كثيرة من كتاب الله عز وجل ومن سنة نبيه صلى الله عليه وسلم، منها قول الله تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} سورة النور الآية٢. وقال الله تعالى: {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً وَمَن تَابَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَاباً} سورة الفرقان الآيات ٦٨-٧١. وقال الله تعالى: {وَلاَ تَقْرَبُواْ الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاء سَبِيلاً} سورة الإسراء الآية ٣٢. قال الشيخ السعدي في تفسير الآية الكريمة: [والنهي عن قربانه أبلغ من النهي عن مجرد فعله، لأن ذلك يشمل النهي عن جميع مقدماته ودواعيه فإن (من حام حول الحمى يوشك أن يقع فيه) خصوصاً هذا الأمر الذي في كثير من النفوس أقوى داع إليه. ووصف الله الزنا وقبحه بأنه {كان فاحشة} أي: إثماً يستفحش في الشرع والعقل والفطر، لتضمنه التجري على الحرمة في حق الله وحق المرأة وحق أهلها أو زوجها وإفساد الفراش واختلاط الأنساب وغير ذلك من المفاسد. وقوله: {وساء سبيلاً} أي: بئس السبيل سبيل من تجرأ على هذا الذنب العظيم.] تفسير السعدي ص٤٥٧. وورد في الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن) رواه البخاري ومسلم. وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صى الله عليه وسلم: (لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة) رواه البخاري ومسلم. وعن سمرة بن جندب رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (رأيت الليلة رجلين أتياني فأخرجاني إلى أرض مقدسة) فذكر الحديث إلى أن قال: (فانطلقنا إلى ثقب مثل التنور أعلاه ضيق وأسفله واسع، يتوقد تحته ناراً، فإذا ارتفعت ارتفعوا حتى كادوا أن يخرجوا، وإذا أخمدت رجعوا فيها، وفيها رجال ونساء عراة) الحديث، وفي رواية (فانطلقنا على مثل التنور قال فأحسب أنه كان يقول فإذا فيه لغط وأصوات، قال فاطلعنا فيه فإذا فيه رجال ونساء عراة، وإذا هم يأتيهم لهب من أسفل منهم فإذا أتاهم ذلك اللهب ضوضوا - أي رفعوا أصواتهم مختلطة – الحديث، وفي آخره (وأما الرجال والنساء العراة الذين هم في مثل بناء التنور فإنهم الزناة والزواني) رواه البخاري. وغير ذلك. وهذه النصوص وردت في الترهيب من الزنا عامة، فكيف بالزنا بالمحارم!؟ فإنه أعظم الزنا، وكيف لا يكون كذلك، ومطلوبٌ من المسلم أن يحافظ على عرضه، فابنته وأخته وعمته وخالته وأم زوجته ونحوهن من المحارم، يلزم المسلم أن يحفظهن وأن يحميهن، لا أن يقع في الزنا معهن والعياذ بالله. وإذا كان الزنا بزوجة الجار من أعظم الذنوب، فكيف الزنا بالأخت أو البنت أو العمة أو الخالة؟! فقد ثبت في الحديث عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي الذنب أعظم؟ قال: أن تجعل لله نداً وهو خلقك، قلت: ثم أي؟ قال: أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك، قلت: ثم أي؟ قال: أن تزاني حليلة جارك) رواه البخاري ومسلم. ورواه الترمذي والنسائي وزادا في روايتهما: وتلا هذه الآية {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً} والحليلة هي الزوجة. وعن المقداد بن الأسود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه: ما تقولون في الزنا؟ قالوا حرام حرمه الله عز وجل ورسوله فهو حرام إلى يوم القيامة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه: لأن يزني الرجل بعشر نسوة أيسر عليه من أن يزني بامرأة جاره) رواه أحمد والطبراني في الكبير والأوسط وصححه العلامة الألباني في صحيح الترغيب ٢/٦١٥. قال الإمام الذهبي: [وأعظم الزنا، الزنا بالأم والأخت وامرأة الأب وبالمحارم وقد صحح الحاكم (من وقع على ذات محرم فاقتلوه) ، وعن البراء أن خاله بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى رجل عرَّس بامرأة أبيه أن يقتله ويخمس ماله) فنسأل الله المنان بفضله أن يغفر لنا ذنوبنا إنه جواد كريم] الكبائر ١/٥٠. وقال الشيخ ابن حجر المكي: [وأعظم الزنا على الإطلاق، الزنا بالمحارم فقد صحح الحاكم أنه صلى الله عليه وسلم قال: (من وقع على ذات محرم فاقتلوه ... وعُلم مما ذكر وغيره أن الزنا له ثمرات قبيحة: منها أنه يورد النار والعذاب الشديد، وأنه يورث الفقر وأنه يؤخذ بمثله من ذرية الزاني ... وعلم من ذلك أيضاً أن الزنا له مراتب: فهو بأجنبية لا زوج لها عظيم، وأعظم منه بأجنبية لها زوج، وأعظم منه بمحرم، وزنا الثيب أقبح من البكر بدليل اختلاف حديهما، وزنا الشيخ- أي الكبير - لكمال عقله أقبح من زنا الشاب، والحر والعالم لكمالهما أقبح من القن – أي العبد – والجاهل.] الزواجر عن اقتراف الكبائر ٣/٧٤. إذا تقررت خطورة الزنا عامة والزنا بالمحارم خاصة، فإن طائفة من أهل العلم قالوا بقتل الزاني بإحدى محارمه، وقد سئل شيخ الإسلام ابن تيمية عمن زنا بأخته ماذا يجب عليه؟ فأجاب: [وأما من زنا بإخته مع علمه بتحريم ذلك وجب قتله والحجة في ذلك ما رواه البراء بن عازب رضي الله عنه قال: مرَّ بي خالي أبو بردة ومعه راية فقلت: أين تذهب يا خالي! قال: (بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى رجلٍ تزوج امرأة أبيه فأمرني أن أضرب عنقه وأخمِّس ماله) مجموع الفتاوى ٣٤/١٧٧. والحديث الذي استدل به شيخ الإسلام ابن تيمية رواه أحمد والترمذي والنسائي، وصححه العلامة الألباني في إرواء الغليل حديث رقم٢٣٥١ وذهب جمهور الفقهاء إلى أن عقوبة الزاني بالمحارم هي نفس عقوبة الزاني، فإن كان محصناً فالرجم، وإن كان غير محصن فالجلد مئة، وذلك لعموم الأدلة الواردة في عقوبة الزاني، وحجة من قال بقتل الزاني بمحرم ما ورد في الحديث عن ابن عباس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من وقع على ذات محرم فاقتلوه) رواه أحمد وابن ماجة والبيهقي والحاكم وقال: صحيح ولم يخرجاه. وحسنه جماعة وضعفه آخرون، فالحديث مختلف في إسناده، انظر إرواء الغليل حديث رقم ٢٣٥٢. وقال الشيخ ابن القيم: [فصل في حكمه صلى الله عليه وسلم فيمن تزوج امرأة أبيه، روى الإمام أحمد والنسائي وغيرهما: عن البراء رضي الله عنه قال لقيت خالي أبا بردة ومعه الراية فقال أرسلني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى رجل تزوج امرأة أبيه أن أقتله وآخذ ماله) ... وفي سنن ابن ماجة من حديث ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من وقع على ذات محرم فاقتلوه) ، وذكر الجوزجاني أنه رفع إلى الحجاج رجل اغتصب أخته على نفسها، فقال احبسوه وسلوا من هاهنا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسألوا عبد الله بن أبي مطرف رضي الله عنه فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول من تخطى حرم المؤمنين فخطوا وسطه بالسيف) ، وقد ن أحمد في رواية إسماعيل بن سعيد في رجل تزوج امرأة أبيه أو بذات محرم فقال يقتل ويدخل ماله في بيت المال، وهذا القول هو الصحيح وهو مقتضى حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال الشافعي ومالك وأبو حنيفة: حده حد الزاني ... وحكمُ رسول الله صلى الله عليه وسلم وقضاؤه أحق وأولى] زاد المعاد٥/١٣. وأخيراً فإن من المقرر عند أهل العلم أن الأصل هو تحريم الإجهاض قبل مرور مئة وعشرين يوماً على الحمل إلا لعذر مشروع على الراجح من أقوال العلماء، وأما بعد مضي مئة وعشرين يوماً على الحمل فقد اتفق أهل العلم على تحريم الإجهاض في هذه الحالة؛ لأن الروح تنفخ في الجنين عند مرور تلك المدة على رأي كثير من العلماء لما ثبت في حديث ابن مسعود رضي الله عنه قال حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق قال: (إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يبعث الله ملكاً فيأمر بأربع: برزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد ثم ينفخ فيه الروح...) رواه البخاري. ويستثنى من هذا الحكم حالة واحدة فقط، وهي إذا ثبت بتقرير لجنة من الأطباء الثقات أهل الاختصاص أن استمرار الحمل يشكل خطراً مؤكداً على حياة الأم فحينئذ يجوز إسقاط الحمل. وقد جاء في قرار المجمع الفقهي الإسلامي لرابطة العالم الإسلامي ما يلي: [إذا كان الحمل قد بلغ مائة وعشرين يوماً لا يجوز إسقاطه ولو كان التشخيص الطبي يفيد أنه مشوه الخلقة إلا إذا ثبت بتقرير لجنة طبية من الأطباء المختصين أن بقاء الحمل فيه خطر مؤكد على حياة الأم فعندئذ يجوز إسقاطه سواء كان مشوهاً أم لا دفعاً لأعظم الضررين] قرارات المجمع الفقهي الإسلامي ص ١٢٣. وبناءً على ما سبق فإن إسقاط الجنين الناتج عن زنا المحارم قبل مضي مئة وعشرين يوماً له وجه شرعي، وخاصة إن خشي قتل الفتاة بسبب الأعراف الاجتماعية والعادات والتقاليد السائدة.

وخلاصة الأمر أن زنا المحارم من أعظم الزنا، والواجب على الأسر أخذ الاحتياطات اللازمة لمنعه بالالتزام بالأحكام الشرعية الواردة مثل الاستئذان قبل الدخول، والتفريق بين الأولاد والبنات في المضاجع، وعدم إظهار مفاتن الجسد أمام المحارم واجتناب مشاهدة الأفلام الإباحية ونحوها، فالوقاية خير من العلاج، ولا يجوز إجهاض الجنين الناتج عن زنا المحارم إذا مضى على الحمل أربعة أشهر، وأما قبل ذلك فيجوز إجهاضه وخاصة إذا خشي على الفتاة من القتل، ومن وقع ذلك منه فعليه أن يبادر إلى التوبة النصوح، قال الله تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ} سورة الزمر الآيات ٥٣-٥٤.

<<  <  ج: ص:  >  >>