للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[١٦ - الزواج قسمة ونصيب]

يقول السائل: تقدمت لخطبة فتاة وتمنَّعَ أهلُها في الموافقة على الزواج، وبعد مدة وافقوا على زواجي منها، ولكنني تراجعت عن فكرة الزواج منها ثم تزوجت الفتاة من شخص آخر، ولما علمت بزواجها ندمت ندماً شديداً، فهل ما حصل معي أمر مقدر حتمي وأنه ليس لي نصيب في تلك الفتاة، أفيدونا؟

الجواب: لاشك ولا ريب أنه لا يقع في ملك الله عز وجل إلا ما قدَّره الله وسبق في علمه سبحانه وتعالى، ومن ضمن ذلك زواج فلان بفلانة، فهذا من القدر، وما يقوله العامة: الزواج قسمة ونصيب، صحيح شرعاً، ويستند إلى الإيمان بالقدر، وهو ركن من أركان الإيمان، قال الإمام أبو جعفر الطحاوي صاحب العقيدة المرضية عند أهل السنة والجماعة: [ونؤمن باللوح والقلم، وبجميع ما فيه قد رقم ... فلو اجتمع الخلق كلهم على شيء كتبه الله تعالى فيه أنه كائن، ليجعلوه غير كائن، لم يقدروا عليه. ولو اجتمعوا كلهم على شيء لم يكتبه الله تعالى فيه، ليجعلوه كائناً، لم يقدروا عليه. جف القلم بما هو كائن إلى يوم القيامة ... وما أخطأ العبد لم يكن ليصيبه، وما أصابه لم يكن ليخطئه ... وعلى العبد أن يعلم أن الله قد سبق علمه في كل كائن من خلقه، فقدر ذلك تقديراً محكماً مبرماً، ليس فيه ناقض، ولا معقب ولا مزيل ولا مغير ولا ناقص ولا زائد من خلقه في سماواته وأرضه ... وذلك من عقد الإيمان وأصول المعرفة والاعتراف بتوحيد الله تعالى وربوبيته، كما قال تعالى في كتابه: {وخلق كل شيء فقدره تقديراً} سورة الفرقان الآية ٢، وقال تعالى: {وكان أمر الله قدراً مقدوراً} سورة الأحزاب الآية ٢٨.] شرح العقيدة الطحاوية ص ٢٩٢-٣٠٤. وصح في حديث جبريل المشهور لما سأل النبيَ صلى الله عليه وسلم عن الإيمان، فقال صلى الله عليه وسلم: أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره. وقال صلى الله عليه وسلم في آخر الحديث: يا عمر أتدري من السائل؟ قال: الله ورسوله أعلم، قال: فإنه جبرائيل، أتاكم يعلمكم دينكم) رواه مسلم. وقال الإمام الترمذي: [باب ما جاء أن الإيمان بالقدر خيره وشره، ثم روى بسنده عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يؤمن عبدٌ حتى يؤمن بالقدر خيره وشره، حتى يعلمَ أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وأن ما أخطأه لم يكن ليصيبه.) وصححه العلامة الألباني في صحيح سنن الترمذي ٢/٢٢٧.

ومما يدل على أن كل شيء يحصل للإنسان مقدرٌ وسابقٌ في علم الله عز وجل بما في ذلك الزواج، قوله تعالى: {ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها، إن ذلك على الله يسير} سورة الحديد الآية ٢٢. وقوله تعالى: {ولا يعزب عن ربك مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء، ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين} سورة يونس ٦١. وقوله تعالى: {وما تسقط من ورقة إلا يعلمها، ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطبٍ ولا يابسٍ إلا في كتاب مبين} سورة الأنعام الآية ٥٩. وقوله تعالى: {وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ} سورة يس الآية ١٢. وقوله تعالى: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} سورة الحج الآية٧٠. وقوله تعالى: {قُل لَن يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا} سورة التوبة الآية ٥١. وورد في الحديث عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، قال: وعرشه على الماء) رواه مسلم. قال الإمام النووي: [قوله صلى الله عليه وسلم (كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة وعرشه على الماء) ، قال العلماء المراد تحديد وقت الكتابة في اللوح المحفوظ أو غيره، لا أصل التقدير فإن ذلك أزلي لا أول له، وقوله: (وعرشه على الماء) أي قبل خلق السماوات والأرض] شرح النووي على صحيح مسلم ٦/١٥٥. وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كل شيء بقدر حتى العجز والكيس) . رواه البخاري ومسلم. قال الإمام النووي: [قال القاضي ... ويحتمل أن العجز هنا على ظاهره، وهو عدم القدرة. وقيل: هو ترك ما يجب فعله، والتسويف به وتأخيره عن وقته، قال: ويحتمل العجز عن الطاعات، ويحتمل العموم في أمور الدنيا والآخرة. والكيس ضد العجز، وهو النشاط والحذق بالأمور. ومعناه أن العاجز قد قدِّر عجزُه، والكَيِّس قد قدِّر كَيسُه.] شرح النووي على صحيح مسلم ٦/١٥٦. وعن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن أول ما خلق الله القلم، فقال له اكتب، قال: وما أكتب يا رب؟ قال: اكتب مقادير كل شيء حتى تقوم الساعة) رواه أبو داود والترمذي وصححه العلامة الألباني في تخريجه لأحاديث العقيدة الطحاوية ص٢٩٤. وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: (حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً نطفةً ثم يكون علقةً مثل ذلك ثم يكون مضغةً مثل ذلك ثم يرسل إليه ملك فينفخ فيه الروح ويؤمر بأربع كلمات يكتب رزقه وأجله وعمله وشقيٌ أو سعيد) رواه البخاري ومسلم. وغير ذلك من النصوص.

إذا تقرر هذا فإن زواج فلان وفلانة مقدر ومكتوب وسابق في علم الله عز وجل، وهنا لا بد من توضيح عدة أمور: أولها: إن المسلم لا يعلم ما قدره الله عز وجل إلا بعد وقوعه، فالقدر من الأمور الغيبية، والمسلم مأمور أن يأخذ بالأسباب، والأخذ بالأسباب لا ينافي القدر، بل هو من قدر الله عز وجل، فإذا أراد شخص الزواج من فتاة فالمطلوب أن يسعى في ذلك، فسعيه للزواج من تلك الفتاة قدر من الله عز وجل، فإذا تم زواجه منها فهو قدر من الله سبحانه وتعالى. وقد جاء في حديث عبد الرحمن بن عوف عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهم، أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، خرج إلى الشام، حتى إذا كان بسرغ، لقيه أمراء الأجناد، أبو عبيدة بن الجراح وأصحابه، فأخبروه أن الوباء قد وقع بأرض الشام قال ابن عباس: فقال عمر: ادع لي المهاجرين الأولين فدعاهم فاستشارهم وأخبرهم أن الوباء قد وقع بالشام، فاختلفوا فقال بعضهم: قد خرجت لأمر، ولا نرى أن ترجع عنه وقال بعضهم: معك بقية الناس وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا نرى أن تقدمهم على هذا الوباء فقال: ارتفعوا عني ثم قال: ادعوا لي الأنصار فدعوتهم، فاستشارهم فسلكوا سبيل المهاجرين، واختلفوا كاختلافهم فقال: ارتفعوا عني ثم قال: ادع لي من كان ههنا من مشيخة قريش من مهاجرة الفتح فدعوتهم، فلم يختلف منهم عليه رجلان فقالوا: نرى أن ترجع بالناس ولا تقدمهم على هذا الوباء فنادى عمر، في الناس: إني مصبح على ظهر فأصبحوا عليه، قال أبو عبيدة بن الجراح: أفراراً من قدر الله فقال عمر: لو غيرك قالها يا أبا عبيدة نعم، نفر من قدر الله إلى قدر الله، أرأيت لو كان لك إبل هبطت وادياً له عدوتان، إحداهما خصبة والأخرى جدبة، أليس إن رعيت الخصبة رعيتها بقدر الله، وان رعيت الجدبة رعيتها بقدر الله قال: فجاء عبد الرحمن بن عوف وكان متغيباً في بعض حاجته، فقال: إن عندي في هذا علماً سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول: إذا سمعتم به – أي الطاعون - بأرض فلا تقدموا عليه، وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فراراً منه قال: فحمد الله عمر، ثم انصرف) رواه البخاري ومسلم.

ثانياً: قرر العلماء أن القدر قدران: أحدهما: القدر المثبت، أو المطلق، أو المبرم: وهو ما في أم الكتاب - اللوح المحفوظ - فهذا ثابت لا يتغير، ولا يتبدل. وثانيهما: القدر المعلق، أو المقيد: وهو ما في كتب الملائكة، فهذا هو الذي يقع فيه المحو والإثبات، فالآجال والأرزاق والأعمار، وغيرها مثبتة في أم الكتاب لا تتغير، ولا تتبدل، أما ما في صحف الملائكة فيقع فيه المحو والإثبات، والزيادة والنقص. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: [والأجل أجلان: أجل مطلق يعلمه الله، وأجل مقيد) وبهذا يتبين معنى قوله صلى الله عليه وسلم: (من سرَّه أن يبسط له في رزقه وينسأ له في أثره فليصل رحمه) . فإن الله أمر الملَك أن يكتب له أجلاً وقال: إن وصل رحمه زدته كذا وكذا. والملَك لا يعلم أيزداد أم لا؟ لكن الله يعلم ما يستقر عليه الأمر، فإذا جاء الأجل لا يتقدم ولا يتأخر] مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية ٨/٥١٧. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في موطن آخر عندما سئل عن الرزق: هل يزيد وينقص؟ [الرزق نوعان: أحدهما ما علمه الله أنه يرزقه، فهذا لا يتغير. والثاني: ما كتبه، وأعلم به الملائكة، فهذا يزيد وينقص بحسب الأسباب] مجموع فتاوى ٨/٥١٧. وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله: [كأن يقال للملَك - مثلاً - إنَّ عُمُرَ فلان مائة عامٍ -مثلاً- إن وصل رحمه، وستون إن قطعها. وقد سبق في علم الله أنه يصل أو يقطع. فالذي في علم الله لا يتقدم ولا يتأخر. والذي في علم الملَك هو الذي يمكن فيه الزيادة والنقص، وإليه الإشارة بقوله: {يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} سورة الرعد الآية ٣٩. فالمحو والإثبات بالنسبة لما في علم الملَك. وما في أم الكتاب هو الذي في علم الله تعالى فلا محو فيه ألبتة، ويُقال له: القضاء المبرم، ويقال للأول: القضاء المعلَّق. فتح الباري ١٠/٤٣٠.] عن موقع الإسلام اليوم.

وخلاصة الأمر أن زواج شخص ما من امرأة ما، أمر مقدر ولا مفر منه، وقد سبق في علم الله عز وجل، وهو مكتوب في اللوح المحفوظ، ولكن الإنسان لا يعلم ما كتب له، وهو مطالب بالأخذ بالأسباب، والأخذ بالأسباب من قدر الله عز وجل، وإذا تقدم شخص لخطبة فتاة ثم لم يتزوجها وتزوجت غيره، فهذا يدلنا على أن الله لم يقدر زواجهما، ونحن ما علمنا بقدر الله عز وجل إلا بعد وقوعه.

<<  <  ج: ص:  >  >>