للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[١٧ - لفظ " الاختلاط " ليس دخيلا على التراث الإسلامي]

يقول السائل: إنه سمع الشيخ يوسف القرضاوي في برنامج الشريعة والحياة يتحدث عن الاختلاط وأن الشيخ قد قال: إن لفظ " الاختلاط " دخيل على التراث الإسلامي ولم يرد فيه مطلقاً، فما قولكم في ذلك، أفيدونا؟

الجواب: ما قاله الشيخ يوسف القرضاوي في برنامج الشريعة والحياة حول لفظة الاختلاط، ما هو إلا تكرار لما قرره في بعض مؤلفاته، فقد سبق أن قال في أحد كتبه: [دخلت مجتمعنا الحديث كلمات أصبح لها دلالات لم تكن لها من قبل، من ذلك كلمة (الاختلاط) بين الرجل والمرأة] ملامح المجتمع المسلم ص٣٦٨. وقال الشيخ يوسف القرضاوي في كتاب آخر: [وأود أن أبادر هنا فأقول: إن كلمة " الاختلاط " في مجال العلاقة بين الرجل والمرأة، كلمة دخيلة على " المعجم الإسلامي " لم يعرفها تراثنا الطويل العريض طوال القرون الماضية، ولم تعرف إلا في هذا العصر، ولعلها ترجمة لكلمة " أجنبية " في هذا المعنى، ومدلولها له إيحاء غير مريح بالنظر لحس الإنسان المسلم. وربما كان أولى منها كلمة " لقاء " أو " مقابلة " أو " مشاركة " الرجال للنساء، ونحو ذلك.] فتاوى معاصرة ٢/٢٧٩.

هذا ما قاله الشيخ يوسف القرضاوي وقرره من أن كلمة الاختلاط في مجال العلاقة بين الرجل والمرأة، كلمة دخيلة على " المعجم الإسلامي " لم يعرفها تراثنا الطويل العريض طوال القرون الماضية، ولم تعرف إلا في هذا العصر، وأقول إن هذه دعوى عريضة بلا دليل ولا برهان، بل إن تراثنا الإسلامي قد عرف كلمة الاختلاط في مجال العلاقة بين الرجل والمرأة، واستعملت في تراثنا الإسلامي بنفس المعنى الذي تستعمل فيه في عصرنا الحاضر، ولا أريد هنا أن أناقش رأي الشيخ يوسف القرضاوي في مسألة الاختلاط الآن، ولعلي أعود إليه لاحقاً، ولكن سأقتصر في الرد على إثبات وجود واستعمال لفظة الاختلاط في تراثنا الإسلامي، الشيء الذي نفاه الشيخ يوسف القرضاوي، ولكن قبل ذلك أقول: إن استعمال لفظة الاختلاط في لغة العرب ليس مقصوراً على الامتزاج والذوبان كما قال الشيخ يوسف القرضاوي في البرنامج المذكور: [فكلمة الاختلاط ... لا يوجد عندنا شيء اسمه الاختلاط، كلمة الاختلاط نفسها اختلط الشيء بالشيء كأنه امتزج به وكأنه ذابت الحدود ولم يعد هناك ... ] ، وأقول: لكنها استعملت في اختلاط الشيئين مع عدم ذوبان أحدهما في الآخر قال ابن منظور: [والخلاط اختلاط الإبل والناس والمواشي ... وفي حديث أبي سعيد كنا نرزق تمر الجمع على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الخلط من التمر أي المختلط من أنواع شتى ... ويكون الخلطاء أيضاً أن يخلطوا العين المتميز بالعين المتميز كما فسر الشافعي ويكونون مجتمعين كالحلة يكون فيها عشرة أبيات لصاحب كل بيت ماشية على حدة فيجمعون مواشيهم على راع واحد يرعاها معا ويسقيها معا وكل واحد منهم يعرف ماله بسمته ونجاره] لسان العرب مادة خلط. هذا من حيث اللغة وأما في الشرع فقد وردت كلمة الاختلاط بالمعنى المستعمل اليوم في السنة النبوية، فمن ذلك:

١. ما رواه أبو داود بإسناده عن أبي أسيد الأنصاري رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول وهو خارج من المسجد فاختلط الرجال مع النساء في الطريق فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للنساء: استأخرن فإنه ليس لكن أن تحققن (أي تركبن حقها وهو وسطها) الطريق ... ) ورواه أيضاً البيهقي في شعب الإيمان ٦/١٧٣ حديث رقم ٧٨٢٢، ورواه الطبراني في المعجم الكبير ١٩/٢٦١، وقال العلامة الألباني: حديث حسن، السلسلة الصحيحة ٢ / ٥٣٧.

٢. وقال الإمام البخاري في صحيحه: [باب طواف النساء مع الرجال. وقال لي عمرو بن على حدثنا أبو عاصم قال ابن جريج أخبرنا قال أخبرني عطاء إذ منع ابن هشام النساء الطواف مع الرجال قال كيف يمنعهن، وقد طاف نساء النبي صلى الله عليه وسلم مع الرجال قلت أبعد الحجاب أو قبل؟ قال إي لعمري لقد أدركته بعد الحجاب. قلت كيف يخالطن الرجال؟ قال لم يكن يخالطن كانت عائشة رضي الله عنها تطوف حَجْرةً من الرجال لا تخالطهم - أي تعتزلهم -، ... ] قال الحافظ ابن حجر العسقلاني: [قوله: (باب طواف النساء مع الرجال) أي هل يختلطن بهم أو يطفن معهم على حدة بغير اختلاط أو ينفردن] فتح الباري ٣/٦٠٦.

هذا من السنة النبوية، وسأذكر نصوصاً كثيرة من أقوال أهل العلم ورد فيها استعمال لفظ الاختلاط بالمعنى الذي نستعمله اليوم، منها:

٣. قال الإمام شمس الأئمة السرخسي المتوفى في حدود سنة ٤٩٠ هـ: [وينبغي للقاضي أن يقدم النساء على حدة والرجال على حدة ; لأن الناس يزدحمون في مجلسه، وفي اختلاط النساء مع الرجال عند الزحمة من الفتنة والقبح ما لا يخفى] المبسوط ١٦/٨٠.

٤. وقال الشيخ ابن قدامة المقدسي المتوفى سنة ٦٢٠ هـ: عند كلامه على استحباب مكث الإمام والرجال بعد صلاة الجماعة قليلاً لتنصرف النساء: [ ... ولأن الإخلال بذلك من أحدهما يفضي إلى اختلاط الرجال بالنساء ... ] المغني ١/٤٠٢.

٥. وقال الشيخ أبو شامة المقدسي المتوفى سنة ٦٦٥ هـ: [أما الألفية فصلاة ليلة النصف من شعبان سميت بذلك لأنها يقرأ فيها {قل هو الله أحد} ألف مرة لأنها مائة ركعة في كل ركعة يقرأ الفاتحة مرة وبعدها سورة الإخلاص عشر مرات وهي صلاة طويلة مستثقلة لم يأت فيها خبر ولا أثر إلا ضعيف أو موضوع، وللعوام بها افتتان عظيم والتزم بسببها كثرة الوقيد في جميع مساجد البلاد التي تصلي فيها، ويستمر ذلك كله ويجري فيه الفسوق والعصيان، واختلاط الرجال بالنساء، ومن الفتن المختلفة ما شهرته تغني عن وصفه ... وأما إن كان على الوجه الذي يجري في هذا الزمان من اختلاط الرجال والنساء ومضامة أجسامهم ومزاحمة من في قلبه مرض من أهل الريب ومعانقة بعضهم لبعض ... فيختلط الرجال والنساء والصبيان والغوغاء ... ] الباعث على إنكار البدع والحوادث ص ٥٠- ٥٨.

٦. وقال الشيخ أبو إسحاق الشيرازي المتوفى سنة ٤٧٦ هـ: [ولا تجب الجمعة على صبى ولا مجنون ... ولا تجب على المرأة ... ولأنها تختلط بالرجال وذلك لا يجوز) المهذب ٤/٤٨٤.

٧. وقال الإمام النووي المتوفى سنة ٦٧٦ هـ: [ ... وقوله ولأنها تختلط بالرجال وذلك لا يجوز ليس كما قال فإنها لا يلزم من حضورها الجمعة الاختلاط بل تكون وراءهم ... ولأن اختلاط النساء بالرجال إذا لم يكن خلوة ليس بحرام] المجموع ٤/٤٨٤.

٨. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية المتوفى ٧٢٨ هـ: [وأما ما يفعل في هذه المواسم مما جنسه منهي عنه في الشرع فهذا لا يحتاج إلى ذكر، لأن ذلك لا يحتاج أن يدخل في هذا الباب، مثل رفع الأصوات في المسجد أو اختلاط الرجال والنساء ... ] اقتضاء الصراط المستقيم ٢/١٤٥.

٩. وقال العلامة ابن القيم المتوفى سنة ٧٥١ هـ: [ (فصل) ومن ذلك: أن ولي الأمر يجب عليه أن يمنع اختلاط الرجال بالنساء في الأسواق ... ولا ريب أن تمكين النساء من اختلاطهن بالرجال أصل كل بلية وشر ... واختلاط الرجال بالنساء سبب لكثرة الفواحش والزنا] الطرق الحكمية ص ٢٧٤ -٢٧٥.

١٠. وقال الإمام الشاطبي المتوفى سنة ٧٩٠ هـ: [ ... ومنها اختلاط الرجال والنساء والشمع بينهم ووجوههم بارزة ... ] الاعتصام ٢/١٣٠.

١١. وقال الشيخ ابن الحاج المالكي المتوفى ٧٣٧ هـ: [ ... وأما إن كان على الوجه الذي يجري في هذا الزمان من اختلاط الرجال والنساء ومصادمة أجسادهم ومزاحمة من في قلبه مرض من أهل الريب ... لما يجري فيه من اختلاط الرجال والنساء ... ] المدخل ٢/٤٤٦. وغير ذلك من النقول الكثيرة.

وخلاصة الأمر أن ما ادعاه الشيخ القرضاوي من أن كلمة الاختلاط دخيلة على تراثنا الإسلامي ولم ترد فيه مطلقاً، ادعاءٌ باطلٌ لم يقم عليه أي دليل، بل إن لفظة الاختلاط عرفت قديماً، فهي مستعملة في السنة النبوية، واستعملها العلماء قديماً في مؤلفاتهم، وادعاء الشيخ القرضاوي بأنها لم تعرف إلا في هذا العصر، ادعاء غير صحيح كما ظهر ذلك جلياً من خلال كلام أهل العلم الذين ذكرتهم مع ذكر سنة وفاة كلٍ منهم.

<<  <  ج: ص:  >  >>