للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[٢٠ - حكم تصوير الفتيات بالجوال وتداول صورهن]

يقول السائل: برزت ظاهرة تصوير الفتيات خلسة بواسطة الجولات ذات الكاميرا، وصار بعض الشباب يتداولون تلك الصور عبر ما يعرف بالبلوتوث وعبر البريد الإلكتروني وبعضهم يستخدمها في أغراض خبيثة، فما الحكم في ذلك، أفيدونا؟

الجواب: أبين أولاً أن الراجح من أقوال أهل العلم هو جواز التصوير الفوتوغرافي، كالتصوير بالكاميرا ومثله التصوير بالفيديو والتصوير التلفزيوني ونحوها من الوسائل الحديثة، بشرط أن لا يعرض للتصوير ما يحرمه، كتصوير امرأة سافرة ونحو ذلك، والتصوير الفوتوغرافي بالشرط المذكور جائز، لأنه لا ينطبق عليه ما ورد من النصوص في تحريم الصور كقول النبي صلى الله عليه وسلم (أشد الناس عذاباً يوم القيامة المصورون) رواه البخاري ومسلم، وكقوله صلى الله عليه وسلم (لا تدخل الملائكة بيتاً فيه كلب ولا صورة) رواه البخاري ومسلم، وكقوله صلى الله عليه وسلم: (من صور صورة في الدنيا كلف يوم القيامة أن ينفخ فيها الروح، وليس بنافخ) رواه البخاري. ومن احتج بهذه الأحاديث ونحوها على تحريم الصور الفوتوغرافية فاستدلاله غير صحيح، لأن التصوير الفوتوغرافي لم يكن معروفاً في العهد النبوي، كما أن هذه النصوص لا تتناول التصوير الفوتوغرافي في دلالتها اللغوية، قال الدكتور محمد الحسن الدّدو: [إن الصور الفوتوغرافية لم تكن موجودة في العهد النبوي ولا في عهد أئمة الاجتهاد، وإنما عرفت في العصور المتأخرة، ولذلك فالنصوص الشرعية الواردة في التصوير لا تتناولها بدلالة الألفاظ قطعاً، لأن اللفظ النبوي في التصوير إنما يتناول ما كان موجوداً إذ ذاك، فالتصوير الذي حرَّمه رسول الله صلى الله عليه وسلم وحذر منه هو ما كان موجوداً في زمانه، وهو النحت من الحجر أو من الطين أو من الخشب أو الرسم باليد فهذا هو التصوير، وهي كذلك لا يمكن أن تقاس على الصور المحرمة، فهي لا تدخل في دلالة اللفظ قطعاً، ومن فسر الألفاظ الواردة في التصوير بها فهو بمثابة من فسر نصوص القرآن بغير معانيها، كالذي يقول في قول الله تعالى: {وجاءت سيارة فأرسلوا واردهم} أن السيارة مثلا (كابرس) أو (لاندروفر) أو نحو هذا، فهذا فسر القرآن بغير معناه ... فلذلك تفسير هذه النصوص بغير دلالاتها اللغوية منافٍ للمقصد الشرعي، وه من القول على الله بغير علم ... وكذلك لا يمكن أن تقاس هذه الصور الفوتوغرافية على الصور الحقيقية التي وردت فيها النصوص، لأن العلة مختلفة، فالعلة التي حرم النبي صلى الله عليه وسلم التصوير من أجلها، بينها بأنها مضاهاة خلق الله ومحاكاته، ولذلك يعذب المصور يوم القيامة (من صوِّر ذا روح عذب حتى ينفخ فيه الروح وما هو بنافخ) ، ولذلك قال: المضاهون خلقي فليخلقوا ذرة فليخلقوا شعيرة، فلهذا بين علة التحريم، وهذه العلة لا تتحقق في الصور الفوتوغرافية ... ] عن شبكة الإنترنت.

إذا تقرر هذا فإن ما ذكره السائل من تصوير الفتيات بالجولات ذات الكاميرا وتداول تلك الصور بالتقنيات الحديثة المعروفة اليوم، محرم شرعاً، لأنه مشتمل على مفاسد عديدة منها:

أولاً: الإطلاع على العورات وكشفها، وهو أمر محرم شرعاً، فقد ورد في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لو اطلع في بيتك أحدٌ ولم تأذن له، حذفته – أي رميته - بحصاة ففقأت عينه، ما كان عليك من جناح) رواه البخاري، وعن سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه قال: إن رجلاً اطلع في جحر في باب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومع رسول الله صلى الله عليه وسلم مدرى - مشط له أسنان يسيرة - يحك به رأسه فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لو أعلم أنك تنظرني لطعنت به في عينك) وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنما جعل الإذن من أجل البصر) . رواه البخاري ومسلم.

ثانياً: إيذاء الناس وإلحاق الضرر بهم، وقد قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا} سورة الأحزاب الآية٥٨. ولا شك أن تصوير الفتيات وتداول صورهن فيه أذىً وضررٌ كبير وتتبع لعوراتهم، فقد ورد عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: صعد رسول الله صلى الله عليه وسلم المنبر، فنادى بصوت رفيع فقال: يا معشر من أسلم بلسانه ولم يفض الإيمان إلى قلبه! لا تؤذوا المسلمين ولا تتبعوا عوراتهم، فإنه من تتبع عورة أخيه المسلم تتبع الله عورته، ومن تتبع الله عورته يفضحه ولو في جوف رحله - وفي رواية أخرى (في بيته) - ونظر ابن عمر إلى الكعبة فقال: ما أعظمك وما أعظم حرمتك والمؤمن أعظم حرمة عند الله منك) رواه الترمذي وابن حبان في صحيحه إلا أنه قال فيه (يا معشر من أسلم بلسانه ولم يدخل الإيمان قلبه لا تؤذوا المسلمين ولا تعيروهم ولا تطلبوا عثراتهم) والحديث حسن صحيح كما قال العلامة الألباني في صحيح الترغيب والترهيب ٢/٥٨٨. وصح عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا ضرر ولا ضرار) رواه أحمد وابن ماجة والبيهقي والحاكم، وصححه العلامة الألباني في إرواء الغليل ٣/٤٠٨.

ثالثاً: إن نشر صور الفتيات وتداولها عبر التقنيات الحديثة - وخاصة المتبرجات منهن – فيه إشاعة للفاحشة بين المؤمنين، ولا شك في تحريم ذلك، قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} سورة النور الآية ١٩. كما إن فيه فساداً وإفساداً حيث يقوم بعض الناس بعمل دبلجة للصور ونشرها في أوضاع مخلة بالآداب الشرعية، وهذا الأمر صار ميسوراً مع التقدم العلمي واستخدامه استخداماً سيئاً.

رابعاً: إن نشر صور الفتيات وتداولها عبر التقنيات الحديثة يحرم أيضاً لأنه يدخل في باب التجسس على الناس، وقد قال سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا} سورة الحجرات الآية ١٢. قال الإمام القرطبي: [ومعنى الآية: خذوا ما ظهر ولا تتبعوا عورات المسلمين، أي لا يبحث أحدكم عن عيب أخيه حتى يطلع عليه بعد أن ستره الله.] تفسير القرطبي ١٦/٣٣٣. وورد في الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إياكم والظن، فإن الظن أكذب الحديث، ولا تحسسوا، ولا تجسسوا، ولا تنافسوا، ولا تحاسدوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا، وكونوا عباد الله إخواناً كما أمركم، المسلم أخو المسلم، لا يظلمه، ولا يخذله، ولا يحقره. التقوى هاهنا، التقوى هاهنا، التقوى هاهنا - ويشير إلى صدره - بحسب امرئٍ من الشر أن يحقر أخاه المسلم، كل المسلم على المسلم حرام: دمه، وعرضه، وماله. إن الله لا ينظر إلى أجسادكم، ولا إلى صوركم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم) رواه البخاري ومسلم، وهذه النصوص تدل دلالة واضحة على تحريم التجسس بكافة أشكاله وأنواعه، ولا شك أنه يدخل فيه التقاط الصور للفتيات وتداولها عبر التقنيات الحديثة.

خامساً: إن نشر صور الفتيات وتداولها عبر التقنيات الحديثة يتسبب في وقوع كثير من المشكلات العائلية، وخاصة إذا كانت الفتاة التي نشرت صورتها متزوجة، فقد يتسبب ذلك في وقوع الطلاق وتشريد الأطفال، لأن بعض الأزواج لديهم غيرة شديدة على زوجاتهم، فيتسرعون في تطليقهن لأدنى سبب، ولا شك أن الغيرة محمودة بشكل عام، ومنها ما هو مذموم وهو ما كان في غير ريبة، فقد ورد في الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن من الغيرة ما يحب الله عز وجل ومنها ما يبغض الله عز وجل، ومن الخيلاء ما يحب الله عز وجل ومنها ما يبغض الله عز وجل فأما الغيرة التي يحب الله عز وجل فالغيرة في الريبة، وأما الغيرة التي يبغض الله عز وجل فالغيرة في غير ريبة، والاختيال الذي يحب الله عز وجل اختيال الرجل بنفسه عند القتال وعند الصدقة، والاختيال الذي يبغض الله عز وجل الخيلاء في الباطل) رواه أحمد وأبو داود والنسائي وابن حبان، وهو حديث حسن كما قال العلامة الألباني في إرواء الغليل ٧/٥٨. والغيرة من غير ريبة نوع من الإفراط، وأما التفريط في الغيرة فهو من لا يغار على زوجته ومحارمه مع وجود الريبة، فهذا ينطبق عليه وصف الديوث، والدياثة من كبائر الذنوب كما قال ابن حجر المكي في الزواجر عن اقتراف الكبائر ٢/١٠٩-١١١. وقد وردت الأحاديث التي تحذر من الدياثة فمنها ما رواه الإمام أحمد في مسنده عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ثلاثة قد حرّم الله عليهم الجنة مدمن الخمر والعاق والديوث الذي يقر الخبث في أهله) . وفي رواية أخرى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ثلاثة لا يدخلون الجنة ولا ينظر الله إليهم يوم القيامة العاق والديه والمرأة المترجلة المتشبهة بالرجال والديوث) رواه أحمد وذكر الشيخ الألباني أن حديث ابن عمر رواه النسائي والحاكم والبيهقي في سننه من طريقين صحيحين وصححه الحاكم ووافقه الذهبي وأقرهما العلامة الألباني على ذلك في جلباب المرأة المسلمة ص ١٤٥.

وخلاصة الأمر أن تصوير الفتيات ونشر صورهن وتداولها عبر التقنيات الحديثة أمر محرم شرعاً لاشتماله على مفاسد عظيمة كما بينت بعضها، وعلى الناس أن يتقوا الله عز وجل في أعراضهم، وعلى المسلم أن يحسن التعامل مع الأجهزة الحديثة وألا يسيء استخدامها بل ينتفع بها الانتفاع الحسن.

<<  <  ج: ص:  >  >>