للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[٢٢ - حكم الزواج بنية الطلاق]

يقول السائل: ما قولكم في مسألة الزواج بنية الطلاق فإن بعض العلماء المعاصرين قد أفتى بجواز ذلك بناءً على أنه عقد توفرت فيه أركان وشروط العقد الصحيح، أفيدونا؟

الجواب: الزواج بنية الطلاق هو أن يتزوج رجل امرأة وينوي بقلبه طلاقها بعد مدة من الزمن قد تطول أو تقصر بناءً على مصلحة الرجل ولا يخبر المرأة أو وليها بنيته طلاقها، وهذه المسألة بحثها الفقهاء المتقدمون وقد أثيرت حديثاً وخاصة بعد أن كثر سفر الشباب المسلم إلى ديار الغرب للدراسة والتجارة ونحو ذلك، وقد أفتى بعض العلماء المعاصرين أؤلئك الشباب بجواز النكاح بنية الطلاق صيانة لهم من الوقوع في الحرام، وعند التدقيق في كلام العلماء الذين أجازوا الزواج بنية الطلاق نجد أنهم نظروا إلى تحقق أركان وشروط العقد في هذا الزواج وأنه لا أثر لنية الزوج المبيتة بالطلاق، قال الشيخ ابن قدامة المقدسي [وإن تزوجها بغير شرط، إلا أن في نيته طلاقها بعد شهر، أو إذا انقضت حاجته في هذا البلد فالنكاح صحيح في قول عامة أهل العلم، إلا الأوزاعي قال: هو نكاح متعة. والصحيح: أنه لا بأس به، ولا تضر نيته، وليس على الرجل أن ينوي حبس امرأته، وحسبه إن وافقته وإلا طلقها) المغني ٧/١٧٩-١٨٠.

وقال الإمام النووي: [قال القاضي: وأجمعوا على أن من نكح نكاحاً مطلقاً ونيَّتُه أن لا يمكث معها إلا مدة نواها فنكاحه صحيح حلال، وليس نكاح متعة. وإنما نكاح المتعة ما وقع بالشرط المذكور. ولكن قال مالك: ليس هذا من أخلاق الناس. وشذ الأوزاعي، فقال: هو نكاح متعة ولا خير فيه] شرح النووي على صحيح مسلم ٣/٥٢٩. وهذا ما قاله العلماء المعاصرون الذي أجازوا الزواج بنية الطلاق فهم قد اعتبروه من الناحية الإجرائية عقداً صحيحاً مستكملاً لأركانه وشروطه ولا أثر لنية الطلاق في صحته.

ولكن المانعين لهذا الزواج من أهل العلم قديماً وحديثاً نظروا إلى أمور أخرى هامة جداً بنوا عليه القول بمنع هذا النوع من الزواج منها:

١. إن الأصل في عقد الزواج في شريعة الإسلام الديمومة والاستمرار ويظهر هذا واضحاً من خلال تحريم الإسلام لكل زواج مؤقت كنكاح المتعة، قال الإمام النووي: [النكاح المؤقت باطل، سواء قيد بمدة مجهولة أو معلومة، وهو نكاح المتعة] روضة الطالبين ٢/٤٢. وقال الشيخ أبو القاسم الخرقي الحنبلي [ولو تزوجها على أن يطلقها في وقت بعينه، لم ينعقد النكاح] المغني ٧/١٨٠.

٢. إن الزواج بنية الطلاق يتنافى مع حقيقة عقد الزواج الذي سماه الله سبحانه وتعالى ميثاقاً غليظاً {وأخذن منكم ميثاقاً غليظاً} وثبت في الحديث عن جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (اتقوا الله في النساء، فإنكم أخذتموهن بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله) رواه مسلم. فأين الزواج بنية الطلاق من المقاصد الشرعية للزواج.

٣. إن الزواج بنية الطلاق ينطوي على الغش والخداع للزوجة ووليها وفيه ظلم واضح للزوجة وإيقاع الضرر بها، وكل ذلك منهي عنه شرعاً، ولو أن الزوج أظهر نيته تلك لما قبلت الزوجة ذلك، ومن المعلوم أن الغش حرام بشكل عام، كيف وهو واقع في أمر عظيم ألا وهو الزواج، وينبغي التنبيه إلى أن ما يفعله بعض أغنياء المسلمين من الزواج عندما يسافرون إلى بلدان فقيرة وفي نيتهم الطلاق ويعرف من يزوجهم أنهم سيطلقون بعدة مدة، فهذا النوع أشبه بنكاح المتعة فهو محرم، لأن المعروف عرفاً كالمشروط شرطاً.

٤. إن الزواج بنية الطلاق فيه إساءة بالغة للإسلام والمسلمين وتشويه لصورة الإسلام حيث إنه يورث عند الآخرين انطباعاً بأن المسلم متحلل من القيم والأخلاق الحسنة ولا ينظر إلا لقضاء شهوته ولمصلحته الشخصية، كما أنه يسيء إساءة بالغة لحقيقة نظرة الإسلام للمرأة، حيث يهتم هذا المتزوج وهو ينوي الطلاق بقضاء شهواته

فقط ويكرس مفهوم الجنس للجنس، وهو مفهوم لا يقبله الإسلام إلى غير ذلك من المفاهيم الخاطئة.

إذا تقرر هذا فلا بد من التنبيه على أن الفتاوى التي نقلت عن أئمة الفقه المتقدمين إنما كانت في حالات خاصة على خلاف الأصل، فلا يجوز تعميمها لتصبح هي القاعدة العامة، وعليه فإني أرجح مذهب العلماء المانعين للزواج بنية الطلاق لما يترتب عليه من مفاسد ولمخالفته للمقاصد الشرعية، كما وأن المسلم لا يرضى هذا الزواج لابنته أو أخته فلا ينبغي أن يرضاه للناس كما ورد في الحديث عن أبي أمامة رضي الله عنه قال: (إن فتىً شاباً أتى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله! ائذن لي بالزنا. فأقبل القوم عليه فزجروه، وقالوا مه مه! فقال: ادنه. فدنا منه قريباً. قال: فجلس. قال أتحبه لأمك؟ قال: لا والله، جعلني الله فداك. قال: ولا الناس يحبونه لأمهاتهم. قال أفتحبه لابنتك؟ قال: لا والله يا رسول الله! جعلني الله فداك. قال: ولا الناس يحبونه لبناتهم. قال أتحبه لأختك؟ قال: لا والله، جعلني الله فداك. قال: ولا الناس يحبونه لأخواتهم. قال أتحبه لعمتك؟ قال: لا والله، جعلني الله فداك. قال: ولا الناس يحبونه لعماتهم. قال أتحبه لخالتك؟ قال: لا والله، جعلني الله فداك. قال: ولا الناس يحبونه لخالاتهم. قال: فوضع يده عليه، وقال: اللهم! اغفر ذنبه، وطهر قلبه، وحصن فرجه. فلم يكن بعد ذلك الفتى يلتفت إلى شيء.) رواه أحمد وصححه العلامة الألباني في السلسلة الصحيحة حديث رقم ٣٧٠.

وقد اختار القول بمنع الزواج بنية الطلاق مجمع الفقهي الإسلامي التابع لرابطة العالم الإسلامي فقد جاء في قراره ما يلي: [الزواج بنية الطلاق وهو زواج توافرت فيه أركان النكاح وشروطه، وأضمر الزوج في نفسه طلاق المرأة بعد مدة معلومة كعشرة أيام، أو مجهولة كتعليق الزواج على إتمام دراسته أو تحقيق الغرض الذي قدم من أجله. وهذا النوع من النكاح على رغم أن جماعة من العلماء أجازوه، إلا أن المجمع يرى منعه لاشتماله على الغش والتدليس. إذ لو علمت المرأة أو وليها بذلك لم يقبلا هذا العقد. ولأنه يؤدي إلى مفاسد عظيمة وأضرار جسيمة تسيء إلى سمعة المسلمين.] عن شبكة الإنترنت. وقال بتحريمه الشيخ محمد رشيد رضا والشيخ العلامة محمد الصالح العثيمين ومن المتقدمين الإمام الأوزاعي وهو القول المعتمد عند الحنابلة.

وخلاصة الأمر أن الزواج بنية الطلاق ممنوع شرعاً ويحرم على المسلم أن يقدم عليه لمخالفته لمقاصد الشارع الحكيم ولما يترتب عليه من مفاسد كثيرة.

<<  <  ج: ص:  >  >>