للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[٤١ - تحريم الزوجة زوجها على نفسها لغو]

يقول السائل: تخاصمت امرأة مع زوجها فسبها مسبة قذرة جداً ... فأقسمت المرأة أنها تُحرم العيش معه وهي تقصد بالعيش معه الحياة الزوجية فهجرته وهجرها أسبوعاً ثم اصطلحا وقد صامت ثلاثة أيام كفارة عن قسمها فما حكم ذلك؟

الجواب: الأصل في الحياة الزوجية أن تقوم على المودة والرحمة والمحبة والتفاهم قال تعالى: (وَمِنْءَايَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) سورة الروم الآية ٢١. قال بعض أهل التفسير: المودة المحبة والرحمة الشفقة وقال ابن عباس رضي الله عنهما: [المودة حب الرجل امرأته والرحمة رحمته إياها أن يصيبها سوء] تفسير القرطبي ١٤/١٧. ولكن من المشاهد أنه لا بد أن تشوب الحياة الزوجية مشكلات ونفور بين الزوجين ومهما حصل من مشكلات فلا يجوز استعمال الألفاظ البذيئة فذلك محرم على الزوجين فقد ورد في الحديث عن ابن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ليس المؤمن بالطعان ولا باللعان ولا الفاحش ولا البذيء) رواه الترمذي وابن حبان والحاكم وصححاه. كما ينبغي أن يعلم أنه لا يجوز للزوج أن يهجر زوجته في الكلام فوق ثلاثة أيام لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث ليال يلتقيان فيعرض هذا ويعرض هذا وخيرهما الذي يبدأ بالسلام) رواه البخاري ومسلم. وأما الهجر في المضجع المذكور في قوله تعال {وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِع} سورة النساء الآية ٣٤. فهذا الهجر سببه النشوز وأجازه جماعة من العلماء إلى شهر كما هجر النبي صلى الله عليه وسلم نسائه شهراً.

إذا تقرر هذا فإن تحريم المرأة العيش مع زوجها أو تحريمه على نفسها لا أثر له على الزواج ولا عبرة به ولكنه أمر محرم فلا يجوز للمسلم أن يحرم ما أحل الله له، لأن ذلك من الاعتداء على شرع الله ويدل على ذلك قوله تعالى: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) سورة المائدة /٨٧

وإنما يعتبر هذا التحريم يميناً على الراجح من أقوال أهل العلم. فهذه المرأة حرمت على نفسها ما أحل الله تعالى فيلزمها كفارة يمين ويدل على ذلك قوله تعالى: (يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ * قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ) سورة التحريم الآيتان١-٢. فالله سبحانه وتعالى سمَّى تحريم ما أحل الله يميناً، وفرض تحلة اليمين، وهي كفارة اليمين، قال الشيخ ابن قدامة المقدسي: [ويروى نحو هذا عن ابن مسعود والحسن وجابر بن زيد وقتادة وإسحاق وأهل العراق، وقال سعيد بن جبير، فيمن قال الحلال حرام عليَّ، يمين من الأيمان يكفرها.... وعن الضحاك، أن أبا بكر وعمر وابن مسعود قالوا الحرام يمين....] المغني ٩/٥٠٨.

وقد ثبت في الحديث، عن عبيد بن عمير قال: سمعت عائشة رضي الله عنها تقول: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يمكث عند زينب ابنة جحش، ويشرب عندها عسلاً، فتواصيت أنا وحفصة، أنَّ أيَتنا دخل عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم فلتقل: " إني لأجد ريح مغافير، أكلت مغافير؟ - وهو نوع من النبات له رائحة كريهة - فدخل على إحداهما فقالت له ذلك، فقال: لا بأس شربت عسلاً عند زينب ابنة جحش، ولن أعود، فنزلت الآية (يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ.... إلى (إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا (لعائشة وحفصة) (وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا) -لقوله بل شربت عسلاً) رواه البخاري ومسلم.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: [وسبب نزول هذه الآية إما تحريمه العسل وإما تحريمه مارية القبطية، وعلى التقديرين فتحريم الحلال يمين على ظاهر الآية وليس يميناً بالله، ولهذا أفتى جمهور الصحابة، كعمر وعثمان وعبد الله بن مسعود وعبد الله بن عباس وغيرهم، أن تحريم الحلال يمين مكفرة] مجموع الفتاوى ٣٥/٢٧١ - ٢٧٢. وروى عبد الرزاق في المصنف بسنده عن الحسن البصري قال: " إن قال: كل حلالٍ عليَّ حرام، فهو يمين، وكان قتادة يفتي به " المصنف ٦/٤٠٢. وروى ابن أبي شيبة بأسانيده عن عمر وعائشة وابن عباس أنهم قالوا: " الحرام يمين " المصنف ٥/٣٧. وروى ابن أبي شيبة أيضاً عن عمر بن ذر قال: " سألت الشعبي عن رجلٍ قال " كل حلالٍ عليَّ حرام "، قال: لا يوجب طلاقاً ولا يحرم حلالاً، يكفر عن يمينه " المصنف ٥/٧٥.

وبناءً على ما تقدم فيلزم هذه المرأة أن تكفر كفارة يمين وصومها ثلاثة أيام لا يصح كفارةً ليمينها إلا إذا عجزت عن إطعام عشرة مساكين أو كسوتهم أو تحرير رقبة فكفارة اليمين هي المذكورة في قوله تعالى: (لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْءَايَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) سورة المائدة الآية ٨٩. فكفارة اليمين إما إطعام عشرة مساكين أو كسوة عشرة مساكين أو عتق رقبة على التخيير أي أن الحالف يختار واحدة من هذه الخصال الثلاث فإذا كان فقيراً عاجزاً عن التكفير بإحدى هذه الخصال فإنه يصوم ثلاثة أيام وبناء على ذلك لا يجوز التكفير بصيام ثلاثة أيام إذا كان الشخص قادراً على ما سبق. ويجوز إخراج قيمة الإطعام أو الكسوة نقداً كما هو مذهب الحنفية.

وينبغي أن يعلم أنه كما اعتبرنا تحريم المرأة زوجها على نفسها لا أثر له على الزواج فكذلك لو تلفظت المرأة بطلاق زوجها أو ظاهرت منه ونحو ذلك فكله يعتبر لغواً لا أثر له على الزواج لأن العبرة أن يصدر الطلاق أو الظهار من الزوج وعلى ذلك دلت النصوص من كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم كما في قوله تعالى {يا أيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن} سورة الأحزاب الآية ٤٩ وقال تعالى {وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو سرحوهن بمعروف} سورة البقرة الاية٢٣١. وقال تعالى: {والذين يظاهرون من نسائهم} سورة المجادلة الآية ٣. وقد حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن الطلاق بيد الزوج لا بيد غيره كما في حديث ابن عباس رضي الله عنه (قال أتى النبي صلى الله عليه وسلم رجل فقال يا رسول الله سيدي زوجني أمته وهو يريد أن يفرق بيني وبينها. قال فصعد رسول الله صلى الله عليه وسلم المنبر فقال: (يا أيها الناس ما بال أحدكم يزوج عبده أمته ثم يريد أن يفرق بينهما إنما الطلاق لمن أخذ بالساق) رواه ابن ماجة والدارقطني والبيهقي وهو حديث حسن كما قال الشيخ الألباني في إرواء الغليل ٧/١٠٨. وقال العلامة ابن القيم [وحديث ابن عباس المتقدم وإن كان في إسناده ما فيه فالقرآن يعضده وعليه عمل الناس] زاد المعاد في هدي خير العباد ٥/ ٢٧٨.

وخلاصة الأمر أن تحريم هذه المرأة العيش مع زوجها لا أثر له على الزواج ويعتبر يميناً وتلزمها كفارة اليمين المذكورة في الآية الكريمة كما بينت.

<<  <  ج: ص:  >  >>