للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[١٢٢ - الحمل والإجهاض]

ما يترتب على الإجهاض,

تقول السائلة: إنها كانت حاملاً في الشهر الخامس وطلب منها زوجها إسقاط الحمل فذهبت هي وزوجها إلى طبيب فأسقط حملها وبعد مضي سنوات على تلك الحادثة ندمت على ما فعلت فما هو المطلوب منها؟

الجواب: إن كثيراً من النساء والأزواج والأطباء يتساهلون تساهلاً كبيراً في موضوع الإجهاض ويظنون أن الأمر هين وهو عند الله عظيم وما عرفوا أن الإجهاض جناية وأنه قد يكون قتلاً ولا شك لدي أن كل من يشارك في عمليات الإجهاض يكون آثماً وعليه مسؤولية كبيرة وله عقوبة كما سأبين فيما بعد، ما لم يكن هنالك عذر شرعي لإسقاط الجنين كأن تقرر ذلك لجنة طبية متخصصة بأن استمرار الحمل يشكل خطراً مؤكداً على حياة الأم ولا بد من إستشارة علماء الشرع قبل ذلك. قال الشيخ ابن الجوزي تحت عنوان إثم المرأة إذا تعمدت الإسقاط: [لما كان موضوع النكاح لطلب الولد وليس من كل الماء يكون الولد فإذا تكون فقد حصل المقصود من النكاح فتعمد إسقاطه مخالفة لمراد الحكمة إلا أنه إن كان ذلك في أول الحمل فقبل نفخ الروح كان فيه إثم كبير لأنه مترق إلى الكمال وسار إلى التمام إلا أنه أقل إثماً من الذي نفخ فيه الروح. فإذا تعمدت إسقاط ما فيها الروح كان كقتل مؤمن وقد قال تعالى: (وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ) الموؤدة: البنت كانوا يدفنونها حية فهي تسأل يوم القيامة لتبكت قاتليها] أحكام النساء ص ٣٧. وقد اتفق أهل العلم على تحريم الإجهاض بعد مرور مائة وعشرين يوماً على الحمل لأن الروح تنفخ في الجنين عند مرور تلك المدة على رأي كثير من العلماء لما ثبت في حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق قال: (إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يبعث الله ملكاً فيأمر بأربع: برزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد ثم ينفخ فيه الروح ...) رواه البخاري.

ويستثنى من هذا الحكم حالة واحدة فقط وهي إذا ثبت بتقرير لجنة من الأطباء الثقات من أهل الاختصاص أن استمرار الحمل يشكل خطراً مؤكداً على حياة الأم فحينئذ يجوز إسقاط الحمل. وقد جاء في قرار المجمع الفقهي الإسلامي لرابطة العالم الإسلامي بمكة المكرمة ما يلي: [إذا كان الحمل قد بلغ مائة وعشرين يوماً لا يجوز إسقاطه ولو كان التشخيص الطبي يفيد أنه مشوه الخلقة إلا ذا ثبت بتقرير لجنة طبية من الأطباء المختصين أن بقاء الحمل فيه خطر مؤكد على حياة الأم فعندئذ يجوز إسقاطه سواء كان مشوهاً أم لا دفعاً لأعظم الضررين] قرارات المجمع الفقهي الإسلامي ص ١٢٣.

وأما الإجهاض قبل مرور مائة وعشرين يوماً على الحمل ففي حكمه خلاف بين العلماء والذي عليه جمهور العلماء هو تحريم الإجهاض بمجرد ثبوت الحمل إلا لعذر شرعي وهذا هو القول المعتمد عند المالكية والإمام الغزالي من الشافعية وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية وقول بعض الحنفية والحنابلة وأهل الظاهر. واختاره كثير من العلماء المعاصرين كالشيوخ محمود شلتوت والقرضاوي والزحيلي وغيرهم. وهذا القول هو الذي أميل إليه وتطمئن إليه نفسي. إذا تقرر هذا فإن العلماء قد أوجبوا الضمان المالي والكفارة على من يسقط الجنين سواء أسقطه بضرب المرأة الحامل فأدى الضرب لإسقاط الجنين أو شربت المرأة دواء فأسقطت أو قام طبيب بإسقاط الجنين أو غير ذلك من الطرق التي تؤدي إلى إسقاط الجنين. أما الضمان المالي في إسقاط الجنين فهو ما يعرف عند الفقهاء بالغرة وهو ما ورد في الحديث الشريف عن أبي هريرة رضي الله عنه: (أن امرأتين من هذيل رمت إحداهما الأخرى فطرحت جنينها فقضى فيه النبي صلى الله عليه وسلم بغرة عبد أو أمة) رواه البخاري ومسلم. وعن عمر رضي الله عنه أنه استثارهم - أي الصحابة - في إملاص المرأة فقال المغيرة رضي الله عنه: (قضى النبي صلى الله عليه وسلم بالغرة عبد أو أمة فشهد محمد بن مسلمة رضي الله عنه أنه شهد النبي صلى الله عليه وسلم قضى به) رواه البخاري ومسلم. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (اقتتلت امرأتان من هذيل فرمت إحداهما الأخرى بحجر فقتلتها وما في بطنها فاختصموا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقضى أن دية جنينها غرة عبد أو وليدة وقضي بدية المرأة على عاقلتها) رواه البخاري ومسلم. وغير ذلك من الأحاديث. قال الحافظ ابن حجر: [والغرة في الأصل البياض يكون في جبهة الفرس ... وتطلق الغرة على الشيء النفيس آدمياً كان أو غيره] فتح الباري ١٥/٢٧٣. أي أن الواجب في قتل الجنين عبد أو أمة ولما كان لا يوجد في زماننا هذا رقيق فإن قيمة ذلك عشر دية المرأة أو نصف عشر دية الرجل أي خمسين من الإبل وتجب الغرة في مال الجاني أو على العاقلة بناء على اختلاف الفقهاء في ذلك وتكون حقاً لورثة الجنين. قال الخرقي: [وإذا شربت الحامل دواء فألقت به جنيناً فعليها غرة لا ترث منها شيئاً وتعتق رقبة] .

وقال الشيخ ابن قدامة المقدسي شارحاً عبارة الخرقي: ليس في هذه الجملة اختلاف بين أهل العلم نعلمه إلا ما كان من قول من لم يوجب عتق الرقبة على ما قدمنا] المغني ٨/٤١٨. وقال الحافظ ابن عبد البر: [أجمع العلماء أن الغرة تجب في الجنين الذي يسقط من بطن أمه ميتاً وهي حية حين سقوطه وأن الذكر والأنثى في ذلك سواء في كل واحد منهما الغرة. واختلفوا على من تجب الغرة في ذلك فقالت طائفة منهم مالك والحسن بن حي هي في مال الجاني وهو قول الحسن البصري والشعبي وقال آخرون: هي على العاقلة وممن قال ذلك الثوري وأبو حنيفة والشافعي وأصحابهم وهو قول إبراهيم وابن سيرين] الاستذكار ٢٥/٧٨-٧٩. هذا بالنسبة للضمان المالي في إسقاط الجنين. وأما بالنسبة للكفارة فقد أوجب جمهور أهل العلم الكفارة على من أسقط الجنين. وقد ذكر الشيخ ابن قدامة المقدسي أن: [هذا قول أكثر أهل العلم منهم الحسن وعطاء والزهري والحكم ومالك والشافعي وإسحاق. قال ابن المنذر: كل من نحفظ عنه من أهل العلم أوجب على ضارب بطن المرأة تلقي جنيناً الرقبة مع الغرة وروى ذلك عن عمر رضي الله عنه وقال أبو حنيفة: لا تجب الكفارة لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يوجب الكفارة حين أوجب الغرة. ولنا قول الله تعالى: (وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ) وقال: (وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ) وهذا الجنين إن كان من مؤمنين أو كان أحد أبويه مؤمناً فهو محكوم بإيمانه تبعاً له يرثه ورثته المؤمنون ولا يرث الكافر منه شيئاً وإن كان من أهل الذمة فهو من قوم بيننا وبينهم ميثاق ولأنه نفس مضمون بالدية فوجبت فيه الرقبة كالكبير وترك ذكر الكفارة لا يمنع وجوبها كقوله عليه الصلاة والسلام: (في النفس المؤمنة مئة من الإبل) وذكر الدية في مواضع ولم يذكر الكفارة ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قضى بدية المقتولة على عاقلة القاتلة ولم يذكر كفارة وهي واجبة كذا هاهنا وإنما كان كذلك لأن الآية أغنت عن ذكر الكفارة في موضع آخر] المغني ٨/٤١٧-٤١٨. وبناء على ما سبق فإنه يجب على هذه المرأة الكفارة وكذلك يجب على زوجها وعلى الطبيب الذي تولى عملية الإجهاض الكفارة أيضاً وهي المذكورة في قوله تعالى: (وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ ... فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين توبة من الله وكان الله عليماً حكيماً) سورة النساء الآية ٩٢. وبما أنه يتعذر في زماننا عتق رقبة فعلى كل واحد من هؤلاء صيام شهرين متتابعين. كما يجب عليهم أن يتوبوا إلى الله توبة صادقة.

وختاماً أقول إن على الأزواج والزوجات أن يتقوا الله سبحانه وتعالى وألا يقدموا على عمليات الإجهاض إلا عند وجود العذر الذي ذكرته سابقاً. كما أن على الأطباء أن يتقوا الله سبحانه وتعالى وعليهم أن يعلموا أنه لا يجوز لهم القيام بعمليات الإجهاض ولو أذن في ذلك الزوجان ما لم يكن هنالك عذر شرعي وعلى هؤلاء الأطباء ألا يبيعوا خرتهم بدراهم معدودة يجنونها. وأخيراً فإني أدعو وزارة الصحة إلى تشديد الرقابة على الأطباء الذي يمارسون عمليات الإجهاض ومعاقبة المخالفين معاقبة شديدة وإن اقتضى الأمر سحب رخص مزاولة المهنة منهم نظراً لانتشار هذا الأمر مع انعدام الرقابة عليه.

<<  <  ج: ص:  >  >>