للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[١٠ - حديث (لا تجوز شهادة بدوي على حضري)]

يقول السائل: إنه قرأ حديثاً عن النبي صلى الله عليه وسلم ورد فيه أنه لا تجوز شهادة بدوي على حضري فهل هذا الحديث ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم أفيدونا؟

الجواب: من المعلوم أن الأصل في الشاهد العدالة وأن يكون مرضياً كما قال تعالى: {وأشهدوا ذوي عدل منكم} سورة الطلاق الآية ٢ وقال تعالى {ممن ترضون من الشهداء} سورة البقرة الآية٢٨٢. بالإضافة إلى الشروط الأخرى للشاهد التي ذكرها الفقهاء والعدالة في الأصل لا ارتباط لها بمكان إقامة الشاهد سواء أكان في البادية أو الحاضرة قال الشيخ ابن قدامة المقدسي [العدل هو الذي تعتدل أحواله في دينه وأفعاله قال القاضي: يكون ذلك في الدين والمروءة والأحكام ... ] المغني ١٠/١٤٨

وأما الحديث الذي أشار إليه السائل فقد رواه أبو داود بإسناده عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (لا تجوز شهادة بدوي على صاحب قرية) ورواه أيضاً ابن ماجة والحاكم والبيهقي وقال الحافظ ابن دقيق العيد: ورجاله إلى منتهاه رجال الصحيح. الإلمام بأحاديث الأحكام ص ٥٢٠. وصححه العلامة الألباني كما في إرواء الغليل ٨/٢٩٠.

وقد اختلف أهل العلم في المراد بهذا الحديث فقال جماعة من العلماء إن المقصود بالحديث هو رد شهادة البدوي مجهول العدالة وأما إذا كان عدلاً فتقبل شهادته.

قال أبو بكر اِلْجَصَّاصِ [وَاخْتُلِفَ فِي شَهَادَةِ الْبَدْوِيِّ عَلَى الْقَرَوِيِّ , فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَزُفَرُ وَاللَّيْثُ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَالشَّافِعِيُّ هِيَ جَائِزَةٌ إذَا كَانَ عَدْلًا وَرُوِيَ نَحْوُهُ عَنْ الزُّهْرِيِّ ... قَالَ أَبُو بَكْرٍ - الجصاص-: جَمِيعُ مَا ذَكَرْنَا مِنْ دَلَائِلِ الْآيَةِ عَلَى قَبُولِ شَهَادَةِ الْأَحْرَارِ الْبَالِغِينَ يُوجِبُ التَّسْوِيَةَ بَيْنَ شَهَادَةِ الْقَرَوِيِّ وَالْبَدْوِيِّ ; لِأَنَّ الْخِطَابَ تَوَجَّهَ إلَيْهِمْ بِذِكْرِ الْإِيمَانِ بِقَوْلِهِ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ} وَهَؤُلَاءِ مِنْ جُمْلَةِ الْمُؤْمِنِينَ , ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} يَعْنِي مِنْ رِجَالِ الْمُؤْمِنِينَ الْأَحْرَارِ , وَهَذِهِ صِفَةُ هَؤُلَاءِ , ثُمَّ قَالَ: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنْ الشُّهَدَاءِ} وَإِذَا كَانُوا عُدُولاً فَهُمْ مَرْضِيُّونَ. وَقَالَ فِي آيَةٍ أُخْرَى فِي شَأْنِ الرَّجْعَةِ وَالْفِرَاقِ: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} وَهَذِهِ الصِّفَةُ شَامِلَةٌ لِلْجَمِيعِ إذَا كَانُوا عُدُولاً , وَفِي تَخْصِيصِ الْقَرَوِيِّ بِهَا دُونَ الْبَدْوِيِّ تَرْكُ الْعُمُومِ بِغَيْرِ دَلَالَةٍ ; وَلَمْ يَخْتَلِفُوا أَنَّهُمْ مُرَادُونَ بِقَوْلِهِ: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} وَبِقَوْلِهِ: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنْ الشُّهَدَاءِ} لِأَنَّهُمْ يُجِيزُونَ شَهَادَةَ الْبَدْوِيِّ عَلَى بَدْوِيٍّ مِثْلِهِ عَلَى شَرْطِ الْآيَةِ. وَإِذَا كَانُوا مُرَادِينَ بِالْآيَةِ فَقَدْ اقْتَضَتْ جَوَازَ شَهَادَتِهِمْ عَلَى الْقَرَوِيِّ مِنْ حَيْثُ اقْتَضَتْ جَوَازَ شَهَادَةِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ , وَمِنْ حَيْثُ اقْتَضَتْ جَوَازَ شَهَادَةِ الْقَرَوِيِّ عَلَى الْبَدْوِيِّ.... وَقَدْ رَوَى سِمَاكُ بْنُ حَرْبٍ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ {شَهِدَ أَعْرَابِيٌّ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى رُؤْيَةِ الْهِلَالِ , فَأَمَرَ بلالاً يُنَادِي فِي النَّاسِ فَلْيَصُومُوا غَداً} فَقَبِلَ شَهَادَتَهُ وَأَمَرَ النَّاسَ بِالصِّيَامِ] أَحْكَامُ الْقُرْآنِ ٢/٢٢٩-٢٣٠

وقال الإمام الشوكاني: [وذهب الأكثر إلى القبول قال ابن رسلان: وحملوا هذا الحديث على من لم تعرف عدالته من أهل البدو والغالب أنهم لا تعرف عدالتهم ا. هـ. وهذا حمل مناسب لأن البدوي إذا كان معروف العدالة كان رد شهادته لعلة كونه بدوياً غير مناسب لقواعد الشريعة لأن المساكن لا تأثير لها في الرد والقبول لعدم صحة جعل ذلك مناطاً شرعياً ولعدم انضباطه فالمناط هو العدالة الشرعية إن وجد للشرع اصطلاح في العدالة وإلا توجه الحمل على العدالة اللغوية فعند وجود العدالة يوجد القبول وعند عدمها يعدم ولم يذكر صلى الله عليه وآله وسلم المنع من شهادة البدوي إلا لكونه مظنة لعدم القيام بما تحتاج إليه العدالة وإلا فقد قبل صلى الله عليه وسلم في الهلال شهادة بدوي.] نيل الأوطار ٨/٣٣٠.

وقال الإمام القرطبي [ ... فعمموا الحكم، ويلزم منه قبول شهادة البدوي على القروي إذا كان عدلاً مرضياً وبه قال الشافعي ومن وافقه، وهو - أي البدوي - من رجالنا وأهل ديننا. وكونه بدوياً ككونه من بلد آخر والعمومات في القرآن الدالة على قبول شهادة العدول تسوي بين البدوي والقروي، قال الله تعالى: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنْ الشُّهَدَاءِ} وقال تعالى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} فمنكم خطاب للمسلمين ... ] تفسير القرطبي ٨/٢٣١- ٢٣٢

وقال الشيخ ابن قدامة المقدسي: [ظاهر كلام الخرقي أن شهادة البدوي على من هو من أهل القرية وشهادة أهل القرية على البدوي , صحيحة إذا اجتمعت هذه الشروط وهو قول ابن سيرين وأبي حنيفة والشافعي , وأبي ثور واختاره أبو الخطاب وقال الإمام أحمد: أخشى أن لا تقبل شهادة البدوي على صاحب القرية فيحتمل هذا أن لا تقبل شهادته وهو قول جماعة من أصحابنا ومذهب أبي عبيد. وقال مالك كقول أصحابنا فيما عدا الجراح , وكقول الباقين في الجراح احتياطاً للدماء واحتج أصحابنا بما روى أبو داود في " سننه " عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا تجوز شهادة بدوي على صاحب قرية) ولأنه متهم حيث عدل عن أن يشهد قروياً وأشهد بدوياً قال أبو عبيد: ولا أرى شهادتهم ردت إلا لما فيهم من الجفاء بحقوق الله تعالى والجفاء في الدين. ولنا , أن من قبلت شهادته على أهل البدو قبلت شهادته على أهل القرية كأهل القرى ويحمل الحديث على من لم تعرف عدالته من أهل البدو ونخصه بهذا لأن الغالب أنه لا يكون له من يسأله الحاكم فيعرف عدالته.] المغني ١٠/١٤٧-١٤٨.

وأما الذين لم يجيزوا شهادة البدوي على الحضري فيرون أن لذلك أسباباً منها أنه يغلب على أهل البادية الجهل بأحكام الدين عامة والشهادة خاصة قال الإمام الخطابي: [يشبه أن يكون إنما كره شهادة أهل البدو لما فيهم من الجفاء في الدين والجهالة بأحكام الشريعة ولأنهم في الغالب لا يضبطون الشهادة على وجهها ولا يقيمونها على حقها لقصور علمهم عما يحيلها ويغيرها عن وجهها] معالم السنن ٤/١٥٧.

ويرى بعض أهل العلم أن رد شهادة البدوي على الحضري يعود لمكان التهمة في ترك إشهاد الحضري وإشهاد البدوي مكانه قال ابن العربي المالكي [ ... إسْقَاطُ شَهَادَةِ الْبَادِيَةِ عَنْ الْحَاضَرَةِ. وَاخْتُلِفَ فِي تَعْلِيلِ ذَلِكَ ; فَقِيلَ: لِأَنَّ الشَّهَادَةَ مَرْتَبَةٌ عَالِيَةٌ , وَمَنْزِلَةٌ شَرِيفَةٌ , وَوِلَايَةٌ كَرِيمَةٌ , فَإِنَّهَا قَبُولُ قَوْلِ الْغَيْرِ عَلَى الْغَيْرِ , وَتَنْفِيذُ كَلَامِهِ عَلَيْهِ ; وَذَلِكَ يَسْتَدْعِي كَمَالَ الصِّفَةِ , وَقَدْ بَيَّنَّا نُقْصَانَ صِفَتِهِ فِي عِلْمِهِ وَدِينِهِ. وَقِيلَ: إنَّمَا رُدَّتْ شَهَادَتُهُ عَلَيْهِ , لِمَا فِيهِ مِنْ تَحْقِيقِ التُّهْمَةِ إذَا شَهِدَ أَهْلُ الْبَادِيَةِ بِحُقُوقِ أَهْلِ الْحَاضِرَةِ , وَتِلْكَ رِيبَةٌ ; إذْ لَوْ كَانَ صَحِيحاً لَكَانَ أَوْلَى النَّاسِ بِذَلِكَ الْحَضَرِيُّونَ , فَعَدَمُ الشَّهَادَةِ عِنْدَهُمْ وَوُجُودُهَا عِنْدَ الْبَدْوِيِّينَ رِيبَةٌ تَقْتَضِي التُّهْمَةَ , وَتُوجِبُ الرَّدَّ] أحكام القرآن ٢/١٠٠٦

وقال الدسوي المالكي: [وحاصله أن تحمل الشاهد الشهادة إذا استبعده العقل أي استغربه أي نسبه للبعد والغرابة كان ذلك مبطلاً للشهادة عند أدائها. قوله: (كبدوي يستشهد) أي يطلب منه تحمل الشهادة في الحضر لحضري أو لبدوي على حضري أو على بدوي بدين أو بيع أو شراء ونحوهما مما يقصد الإشهاد عليه من سائر عقود المعاوضة ونحو الوصية والعتق والتدبير، فإذا طلب من البدوي تحمل الشهادة بشيء من ذلك في الحاضرة فلا تقبل منه إذا أداها، وذلك لأن ترك إشهاد الحضري وطلب البدوي لتحمل تلك الشهادة فيه ريبة لأن العقل يستبعد ويستغرب إحضار البدوي لتحمل الشهادة دون الحضري، وأما لو تحمل البدوي الشهادة في الحضر لحضري أو بدوي على حضري أو بدوي بحرابة أو قتل أو قذف أو جرح أو شبه ذلك كغصب وضرب وأداها، فإنها تقبل منه لعدم الاستبعاد في تحملها] حاشية الدسوقي على الشرح الكبير ٤/١٧٥.

وخلاصة الأمر أن الحديث المشار إليه في السؤال حديث صحيح ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم ولكن الحديث محمول على من لم تثبت عدالته من البدو حيث إن القاعدة عند المحققين من أهل العلم أن الأصل في الناس الجهالة لا العدالة. فإن ثبتت عدالة البدوي فشهادته مقبولة ولا فرق بينه وبين الحضري وهذا هو المتفق مع قواعد الشرع العامة التي لا تفرق بين الناس بناءً على اختلاف موطنهم.

<<  <  ج: ص:  >  >>